الاقتصادات الدائرية تستشرف مستقبلاً أكثر استدامة
يشهد العالم في الوقت الراهن اهتماماً متنامياً بسياسات الاقتصاد الدائري (CE)، تزامناً مع توسع نطاق أزمة المناخ، وتزايد جهود الاستدامة العالمية. ويعود الفضل في هذا الحراك، إلى الدور الحيوي لهذا النموذج الاقتصادي في توفير حلول جذرية لمواجهة التحديات العالمية، في وقت تتطلع العديد من الدول لتحقيق التوازن بين مسار النمو الاقتصادي وتطبيق الإجراءات الهادفة لحماية البيئة. ويواجه كوكب الأرض تهديداً حقيقياً، بسبب الارتفاع غير المشهود في مستويات الاستهلاك العالمي، وتزايد حجم المخلفات الناجمة عن هذا التوجه. إلا أن الواقع يوفر للدول والشركات القدرة على إعادة تنظيم اقتصاداتها، والمساهمة في استشراف مستقبل مستدام للجميع، عبر تحويل عمليات الإنتاج ودورات حياة المنتجات وجعلها أكثر كفاءة.
تفاصيل المفهوم: يلبي الاقتصاد الدائري احتياجات الجيل الحالي من المستهلكين، عبر توفير المنتجات والخدمات القابلة للتجديد أو المتجددة، ما يساهم في إطالة دورة حياة المواد التي تحافظ على أعلى قيمة لها. ولتحقيق هذا الهدف، يجب صيانة المنتجات بشكل جيد، مع القدرة على إصلاحها وترميمها بسهولة، أو تفكيكها للاستفادة من مكوناتها بأقصى قدر ممكن، والحد من الهدر في استهلاك الموارد.
كما يساهم نموذج الاقتصاد الدائري في الحد من استهلاك الموارد وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة، ما يؤدي بالتالي إلى حل مجموعة من التحديات ذات الصلة بالتغير المناخي وندرة الموارد والنفايات والتلوث وتدهور مستويات التنوع البيولوجي. كما تنعكس فوائده في المجالات الاقتصادية والاجتماعية أيضاً، مثل توفير المزيد من فرص العمل وتحسين صحة المجتمعات.
ريادة التحول بالقدوة الحسنة: دول مجلس التعاون الخليجي، ولا يقتصر مفهوم الاقتصاد الدائري على النظريات والخطط المستقبلية فحسب، حيث بدأ تطبيقه على أرض الواقع في عدد من الدول ذات الرؤى الاستشرافية حول العالم، ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة. تهتم الإمارات على نحو واسع النطاق بتبني نهج الاقتصاد الدائري، حيث وقعت على مبادرة “تسريع الاقتصاد الدائري 360” بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي، كما أنشأت مجلس الإمارات للاقتصاد الدائري. وقد وافق المجلس حتى الآن، على تبني 22 سياسة في إطار نموذج الاقتصاد الدائري، في أربعة قطاعات رئيسية – التصنيع، والأغذية، والبنية التحتية، والنقل – مع تسليط الضوء على مجموعة هائلة من فرص الأعمال ذات الصلة بهذا المفهوم الاقتصادي.
وتجدر الإشارة إلى الجهود التي تبذلها دولة الإمارات العربية المتحدة لمواجهة التحديات الناجمة عن مواد البلاستيك ذات الاستخدام الواحد. وأكدت أبوظبي اهتمامها بهذه القضية، عبر حظر استخدام الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد منذ يوليو 2022، بينما فرضت دبي رسوماً إلزامية على استخدام الأكياس البلاستيكية، مع التخطيط لمنعها على نحو كلي اعتباراً من عام 2024.
كما تكتسب عبوات المياه القابلة لإعادة التعبئة، إقبالاً عالمياً واسع النطاق. فعلى سبيل المثال، شهدت الإمارات إطلاق مبادرة “دبي تبادر”، لتشجيع كافة شرائح المجتمع على اتباع أسلوب ترشيدي والحد من استهلاك العبوات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، عبر نشر مجموعة من الأجهزة لتوفير المياه الصالحة للشرب في المدينة، والتي يمكن تعبئتها في عبوات أكثر استدامة، للحد من استهلاك البلاستيك. ومن المتوقع أن يزداد عدد هذه الأجهزة تزامناً مع النمو المتوقع لهذا البرنامج المستدام. وجذب المفهوم الجديد اهتمام العديد من المؤسسات عبر مجالات اقتصادية متنوعة، حيث أطلقت إحدى العلامات التجارية العالمية لمنتجات العناية بالجسم خطتها لتوفير عبوات قابلة لإعادة الاستخدام في دبي. وسيتمكن العملاء في هذا الإطار، من شراء عبوات ألومنيوم يمكن إعادة استخدامها للاحتفاظ بمنتجات العلامة بدلاً من العبوات ذات الاستخدام الواحد.
وفي اتجاه مواز، أطلقت المملكة العربية السعودية، البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون، بالإضافة إلى مجموعة من المبادرات الهادفة للحد من حجم النفايات التي يتم تحويلها للمكبات بمعدل 82٪. وتتطلع المملكة لاعتماد مبادئ الاقتصاد الدائري، في ظل سعيها المتسارع لتحقيق أهداف رؤيتها 2030.
الرواد العالميون: تتعدد الأمثلة الإيجابية التي توفرها الدول الأوروبية وغيرها من الدول العالمية في مجال الاقتصاد الدائري والمبادرات الهادفة لتبنيه. فعلى سبيل المثال، تقود هولندا العديد من المبادرات المتصلة بهذا المجال، بما في ذلك المشروع الرائد لمعالجة مشكلة مفارش السرير المهملة. وكانت هذه الدولة الأوروبية قد واجهت مجموعة من التحديات المرتبطة بارتفاع تكاليف جمع المفارش وحرقها، ما أدى إلى تنامي الحاجة لإيجاد حل مستدام لهذه المعضلة. وتم الاتفاق بعد جولات من المفاوضات المضنية، على تبني سياسة مسؤولية المنتج الممتدة (EPR) من قبل أكبر خمسة مصنعين ومستوردين للمفارش على الصعيد المحلي، بهدف زيادة معدل إعادة التدوير وصولاً إلى نسبة 75٪ بحلول عام 2028. وشهدت هذه المبادرة نجاحاً استثنائياً تمثل في تحقيق أهدافها حالياً، أي قبل سنوات من الوقت المتوقع، ما أدى إلى تحول الرأي العام الهولندي للاهتمام ببرامج إعادة تصميم المفارش واستخدامها.
أهمية التعاون لتحقيق الأهداف الدائرية: يعتمد إنشاء اقتصادات دائرية متماسكة ونجاح السياسات المرتبطة بها، على الالتزام والتعاون بين الجهات المعنية على نطاق واسع. ومن الضرورة بمكان، تجنب اعتماد نهج التغيير البيروقراطي التقليدي، واتباع نهج الحوكمة المتمثل في التعاون والتنسيق بين الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة.
ويقدم المشهد العالمي دروساً وخبرات ملهمة، تساهم في دعم الجهود المبذولة لتطوير اقتصاد دائري فعّال. ومنها على سبيل المثال:
1- هدف التغيير: يكمن العنصر الأول لنجاح مبادرات الاقتصاد الدائري في تحديد الدافع الأساسي لتغيير الوضع الراهن، بالإضافة إلى الإمكانات والفرص التي ستتوفر لأصحاب المصلحة.
2- إدارة عملية الانتقال: يتحقق النجاح المتكامل لعملية تبني واعتماد نموذج الاقتصاد الدائري، عند تلقي الدعم من قبل هيئات الحوكمة مثل اللجان التوجيهية واللجان الإشرافية وفرق التنفيذ وغيرها من الجهات المؤثرة على تبني عملية التحول.
3- التصحيح المستمر لمسار التحول: من المستحيل أن يتم تبني الاقتصاد الدائري على نحو مباشر وفوري، حيث ترتكز العملية عادة على مجموعة من الاستراتيجيات المصممة بعناية، والقابلة للتعديل والتطوير خلال المسيرة التحولية، وبما يتوافق مع الرؤى والاستنتاجات التي تتجلى خلال الرحلة. من ناحية أخرى، تكتسب عوامل الالتزام والتمويل المناسب والقدرة على مواجهة التحديات بفعالية، أهمية استثنائية خلال جميع المبادرات المتصلة باعتماد الاقتصاد الدائري.
مسارات النجاح: تتمتع الاقتصادات الدائرية بقدرتها على إحداث تحولات إيجابية جذرية عبر كافة المجالات الحياتية والتي تشمل، دعم الجهود العالمية لمواجهة قضايا المناخ، وتحقيق أهداف الاستدامة، بالإضافة إلى المساهمة في تحقيق الازدهار المستقبلي للشركات والمجتمعات حول العالم. ومن الأهمية بمكان، التنبه إلى التحديات التي ترافق عملية تطوير وتنفيذ مبادرات الاقتصاد الدائري على نحو ناجح. وتتطلب الريادة هنا، ضرورة التعاون بين أصحاب المصلحة في القطاعين العام والخاص لتصميم مسار دائري يضع الدول على طريق النجاح. ويبرز العامل الأكثر أهمية، في ضرورة الاستعداد لتقبل التغييرات التي سيشهدها المسار، وبالتالي اكتساب المرونة اللازمة للتوافق مع هذه التحولات، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الخصائص الاقتصادية والثقافية والقطاعية بين الدول في هذا المجال. ورغم تنوع التجارب واختلاف المحطات والمشاهد، إلا أن الوجهة التي يتطلع الجميع لتحقيقهما تكمن في: تأمين مستقبل مشرق ومستدام للشركات والمجتمعات والكوكب الذي يجمعنا.
بقلم كارلو ستيلا، شريك في قطاع الطاقة والمرافق في “آرثر دي ليتل” الشرق الأوسط