[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

دكتورة ميرنا القاضي تكتب: نبوءات الزمن ونهاية العالم في مصر القديمة

منذ أن خط الإنسان أولى خطواته على مسرح الوجود، لم يكف عن التأمل في لغز الزمن وسر نهاياته وبداياته. كائن يتسع له الكون لكنه يضيق تحت ثقل الفوضى والاضمحلال، يبحث دائمًا عن الأمل في بطل منتظر يحمل راية العدل ويعيد التوازن إلى عالم مضطرب. هذا البطل لم يكن مجرد خيال عابر، بل كان محورًا أساسيًا في أساطير وحكايات الشعوب القديمة، ومن بينها الحضارة المصرية العظيمة التي استطاعت أن تسجل تصوراتها عن الزمن ودوراته المتعاقبة في نصوص أدبية وفلسفية خالدة.

المصري القديم لم ير الزمن كخط مستقيم ينتهي بنقطة واحدة، بل كان بالنسبة له كائنًا حيًا يتنفس، يولد ويشب ويموت، ثم يبعث من جديد. ومن هنا، كان لكل دورة زمنية نهاية، ولكل نهاية أبطالها وأحداثها. لكن السؤال الذي يثير فضولنا اليوم: هل عرف المصريون القدماء فكرة المهدي المنتظر أو المُخلّص؟ وهل تنبؤوا بظهوره كما فعلت ثقافات أخرى؟ وماذا قال عن البطل الذي سيعدل الكفة ويقيم العدل في الأرض؟للإجابة على هذا السؤال، نسافر معًا عبر الزمان ونستعرض أبرز النصوص المصرية التي تناولت نهايات الزمن وبداياته الجديدة.

فلسفة الزمن عند المصريين القدماء

عندما تجلس أمام أهرامات الجيزة الشامخة، تشعر وكأنك تتحدث مع الزمن نفسه، زمن يحمل بين طياته أسرار البدايات والنهايات.

آمن المصريون القدماء أن الزمن يشبه البشر، يمر بمراحل القوة والشباب، ثم يشيخ ويضعف حتى يصل إلى نهايته. في نهاية كل دورة زمنية، كان الفساد يتفشى، ويظهر الخلل في التوازن البيئي والاجتماعي. لكن هذه النهاية لم تكن مأساوية، بل مجرد مرحلة تسبق ولادة عصر جديد.

بداية تنتظر البطل، المنقذ، المُخلّص الذي يعيد التوازن لعالم يعاني من الفوضى والانحلال. هذا البطل، الذي قد نراه اليوم مرادفًا لفكرة “المهدي المنتظر”، كان حاضرًا في فلسفة المصريين القدماء وأدبهم العميق.

 

نبوءات الحكيم نِفِرتي: نذير الفوضى وبشارة الخلاص

أروع الأمثلة التي قدمتها مصر القديمة عن نهايات الزمن وبداياته، نص أدبي فريد يُعرف باسم “نبوءات الحكيم نِفِرتي”. يعود هذا النص إلى عصر الدولة الوسطى وتدور أحداثه حول لقاء بين الملك سنفرو، أول ملوك الأسرة الرابعة، والحكيم نِفِرتي، الذي يمتلك القدرة على قراءة المستقبل. يحكي النص عن الفوضى والفساد الذي سيجتاح مصر في نهاية إحدى الدورات الزمنية، ثم ظهور المُخلّص الذي يعيد بناء الدولة ويقيم العدالة.

وصف الفوضى والنهاية:

يبدأ الحكيم نِفِرتي بوصف مصر في نهاية الدورة الزمنية: “سوف تعمّ الفوضى البلاد، وتنقلب الأوضاع. يُستعبد النبيل، ويصبح الصغير سيدًا. ستُهمل العدالة، ويُطارد الناس دون ذنب. الأرض تئن تحت وطأة الظلم، والماء يُلطَّخ بالدماء.

“النيل، الذي كان هبة الحياة، سيتحول إلى نهر جاف. المحاصيل ستنضب، والجوع سيضرب الجميع.
“السماء ستُظلم، ولن تجد النجوم سبيلها للإضاءة. الكهنة سيتخلون عن معابدهم، وستُغلق أبواب العدل في وجه المظلومين.”

ظهور البطل المُنتظر:

بعد وصف هذه المشاهد الكارثية، ينتقل الحكيم نِفِرتي إلى البشارة: “لكن بعد هذه الظلمة، سيأتي رجل عظيم. سيُدعى ‘أمينى'(الملك أمنمحات الأول)، الملك المؤسس. سيكون كالراعي لشعبه، يحمي الضعفاء وينتصر للعدالة، سيعيد هذا البطل بناء مصر، ويعيد النيل إلى مجراه، ويزرع الحقول بعد قحطها. ستعود الأرض شابةً، وسيغمر العدل ربوع البلاد، سيحكم مصر بحكمة، وستعود التوازنات الكونية إلى نصابها.”

نبوءة الكَبْش ونبوءة صانع الفخار: انتظار المؤسس

النصوص المصرية لم تكتفِ بالإشارة إلى نهاية دورة زمنية واحدة، بل سجلت نبوءات أخرى مرتبطة بأحداث نهاية العصر البطلمي. ومن أشهرها نصا “نبوءة الكبش” و”نبوءة صانع الفخار”.

هذان النصان يصفان حالة الفوضى التي ضربت مصر أثناء الاحتلال الآشوري والفارسي. وعلى غرار نبوءة نِفِرتي، يشيران إلى ظهور مُخلّص يحمل لقب “با تا سِنتيت”، أي “المؤسس”، وهو الملك الذي سيعيد بناء الدولة المصرية بعد الفوضى.

من اللافت أن ملوك البطالمة استغلوا هذه النبوءات لتوطيد حكمهم، حيث أطلق بطليموس الأول على نفسه لقب “سوتير” (المنقذ)، في محاولة لتقديم نفسه كشخصية نبوئية جاءت لتعيد الاستقرار لمصر.

حالة الفوضى:

يصف النصان حالة من الفوضى التي اجتاحت مصر أثناء الاحتلال الآشوري والفارسي:

1-نبوءة الكَبْش

هذا النص المؤرخ لنهاية العصر البطلمي يصف حالة من الفوضى التي ضربت مصر أثناء الاحتلال الآشوري والفارسي.

وصف حالة الفوضى:

“الناس يهيمون في الطرقات بلا وجهة، الجوع يسكن في كل بيت. لن تجد الفلاح في حقله، ولا الصانع في ورشته.”
“الملوك الأجانب سيحكمون البلاد، لكنهم لا يعرفون أسرار مصر. الآلهة غاضبة، والمعابد خالية من القرابين.”
“كل شيء ينقلب على رأسه، والخوف يحكم النفوس.”

بشارة البطل:

“سيأتي ‘با تا سِنتيت’، الملك المؤسس، ليعيد بناء ما تهدم. سيُحيي الأرض من جديد، ويعيد للشعب كرامته. سيكون حاملًا للنور في زمن الظلمة.”

2. نبوءة صانع الفخار

هذه النبوءة من النصوص النادرة، وتُعتبر استكمالًا لنبوءة الكبش.

تصوير النهاية:

“الأرض ستتحدث، وستقول: واأسفاه على أبنائي الذين نسوا عهدهم مع الآلهة.”
“الجبال ستنهار، والرياح ستحمل صرخات اليتامى.”
“سيتحطم الميزان، ويُهزم الحق على يد الباطل. لن يبقى في البلاد إلا شبح لما كانت عليه.”

عودة الأمل:

“ولكن، من بين الرماد، سيُولد نور جديد. البطل المنتظر سيحمل راية الحق، وسينشر السلام. ستعود المعابد مليئة، والحقول خضراء، والنيل فياضًا.”

 

متون هرمس: النهاية الكبرى وبداية العصر الجديد

النصوص الفلسفية والدينية المصرية لم تتوقف عند حدود نهايات الدورات الزمنية الصغيرة، بل تجاوزتها إلى الحديث عن نهاية كبرى للزمن في متون هرمس، التي كُتبت في العصر البطلمي.

هذه المتون تتحدث عن انهيار كوني شامل، حيث تصل الفوضى إلى ذروتها، ولكنها تؤكد أن الفناء ليس النهاية. بل على العكس، ستولد دورة جديدة تحمل النور والنظام من جديد. المفاهيم المذكورة في هذه النصوص تتشابه مع التصورات الحالية حول أزمات العالم الراهنة، ما يجعلها محط اهتمام الباحثين والفلاسفة حتى يومنا هذا

 

النهاية الكبرى:

“ستختفي الحقيقة من القلوب، وسيحل مكانها الكذب. الفضيلة ستتحول إلى عيب، والحكمة ستُلقى في الظلال.”
“العالم سيمتلئ بأصوات الصراع، والأخضر سيتحول إلى صحراء. السماء لن تمنح مطرًا، والأرض لن تُنبت زرعًا.”
“الآلهة ستبتعد، والإنسان سيُحرم من الوحي.”

الولادة الجديدة:

“لكن هذا ليس نهاية المطاف. عندما يصل العالم إلى حافة الفناء، ستتحرك الإرادة الإلهية.”
“ستعود الأرض إلى شبابها، وسيأتي زمن جديد، عصر مليء بالضياء والحكمة.”
“مصر ستكون مركز النور، وستُعيد للإنسان معنى وجوده.”

البطل المنتظر: فكرة عالمية برؤية مصرية تشابه النبوءات مع فكرة المهدي المنتظر

فكرة المُخلّص أو البطل المنتظر الذي يُعيد التوازن والعدالة ليست مقتصرة على المصريين القدماء. نجدها في الهندوسية (الأفاتار العاشر لفيشنو)، وفي الزرادشتية (سوشيانت)، وفي اليهودية والمسيحية والإسلام (المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر). هذا التقاطع يوحي بوجود نمط فكري عالمي يعكس حاجة البشرية إلى الأمل وإعادة النظام في أوقات الفوضى.

المصري القديم لم يطلق على هذا البطل اسمًا ثابتًا، لكنه عبر عنه بألقاب مثل “المؤسس” و”المُنقذ”، وأكد أنه الشخص الذي يضع حدًا للظلم ويُقيم نظامًا جديدًا يعيد الحياة إلى الأرض.

 

أمل لا يموت

مصر القديمة لم تكن مجرد حضارة ذات صروح شاهقة وآثار خالدة، بل كانت عقلًا مفكرًا يتأمل مصير البشرية ويرسم صورًا رمزية لأحلامها ومخاوفها.

النبوءات المصرية القديمة ليست مجرد سرد تاريخي، بل تأملات عميقة في طبيعة الزمن والوجود. إنها تُذكرنا بأن الفوضى ليست سوى مرحلة انتقالية، وأن النور لا بد أن يعود مهما طال الظلام.

في قلب كل إنسان، هناك انتظار دائم لبطل يُعيد التوازن، سواء كان هذا البطل شخصية تاريخية، أو رمزًا للأمل المتجدد الذي يدفعنا للمضي قدمًا رغم كل العثرات. وهكذا، تبقى مصر القديمة تُعلمنا أن الزمن ليس عدوًا، بل شريكًا في دورة أبدية، حيث تتجدد الحياة دائمًا، ويولد النور من قلب الظلام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى