دكتورة ميرنا القاضي تكتب: رعموزا.. حكاية يأس وإيمان خارج الحدود
في قلب الحضارة المصرية العريقة، كانت الآلهة تتربع على عروش المعتقدات، تحمل معها وعودًا بالخصوبة والحياة الأبدية. في كل ركن من أركان مصر القديمة، تتناثر قصص النجاح والفخر، حيث كان الإنسان المصري دائمًا على اتصال بعالم الآلهة، مؤمنًا بقوتها وقدرتها على تحقيق أعمق رغباته. ولكن بين هذه القصص العظيمة، تنبثق حكاية استثنائية… حكاية يأس تتحدى حدود الإيمان، ورغبة لم تتحقق رغم كل المحاولات.
الجدارية النادرة للكاتب الملكي رعموزا هي أكثر من مجرد قطعة فنية منقوشة على الحجر. إنها قصة لرجل تحدى مصيره، وخرج عن إطار المألوف في سعيه لتحقيق الحلم الأكثر إنسانية وهو: إنجاب الأبناء.
منقوشة على جدران دير المدينة في حقبة رمسيس الثاني، تجسد هذه الجدارية ملحمة إنسانية من الفشل واليأس، حيث امتزجت فيها الطقوس المصرية بالآلهة الآسيوية في محاولة يائسة لإيجاد الخلاص. وفي هذه القصة النادرة، نرى رعموزا، الكاتب الملكي الذي وجد نفسه في مأزق يلامس أعمق أحاسيس الإنسان عبر العصور: العجز أمام الطبيعة وعدم القدرة على إنجاب الأبناء.
قصة يأس وإيمان خارق
رعموزا، الكاتب الملكي ذو المكانة الرفيعة، عاش حياة ملأها الطموح والعمل، لكن شيئًا واحدًا ظل بعيدًا عن متناول يديه: الأبناء. لم يكن له وريث يحمل اسمه أو يرث مكانته. ومع مرور السنوات، بدأ اليأس يتسلل إلى قلبه. استنجد بكل ما يعرفه من آلهة مصرية، قدم القرابين، وتوجه بالدعاء، لكنه لم يُرزق بالذرية.
هنا تبدأ تلك القصة النادرة في الظهور. للمرة الأولى في تاريخ الأسرات المصرية، نجد مصريًا يلجأ إلى آلهة خارج تقاليده وعقائده. استعان رعموزا بآلهة من آسيا، متجاوزًا الحدود الجغرافية والدينية، آملاً أن يجد في تلك الآلهة ما لم يجده في معابد مصر. تظهر الجدارية الآلهة الآسيوية “كودشو”، عارية على ظهر أسد، وهي تجسد الحب والخصوبة، تحيط بها آلهة ذكورية مثل “ريشب” و”آمون رع”. أسفلها، يظهر رعموزا وزوجته، وهما يقدمان القرابين بتواضع ويأس عميق.
الجدارية ليست مجرد نقش حجري، بل هي مرآة لحالة الإنسان وهو في أقصى لحظات ضعفه، مستعد للذهاب أبعد ما يمكن لتحقيق رغبته. استحضار الآلهة الآسيوية كودشو ودمجها في مشهد تعبدي مع الآلهة المصرية التقليدية مثل آمون رع، يكشف عن عمق اليأس الذي أحاط برعموزا، لكنه أيضًا يشير إلى مدى تداخل الثقافات في تلك الفترة، حيث لم تكن الحدود العقائدية قاطعة كما نتصور اليوم.
لماذا هي نادرة؟
ما يجعل هذه الجدارية نادرة ومذهلة هو أنها توثق خروج المصري القديم عن المألوف، محاولًا كسر قيود إيمانه والتوجه إلى آلهة غريبة عليه. استعان رعموزا بآلهة غير مصرية في لحظة يأس، في سعيه المستميت للإنجاب. ولعل هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها مشهدًا مثل هذا، حيث يقدم مصري قرابينه لآلهة ليست من بلده. ولعل هذا المشهد يوضح مدى قوة الرغبة البشرية التي يمكن أن تدفع الإنسان لتحدي حتى أعرافه الدينية والتقليدية في لحظة أمل أخيرة.
ولكن، حتى هذه المحاولة فشلت. رعموزا مات دون أن ينجب، ولم تستجب له لا الآلهة المصرية ولا الآلهة الآسيوية. وهذا الفشل يحمل معه تأملًا في ضعف الإنسان أمام قوى الطبيعة والقدر، بغض النظر عن مدى قوته أو مكانته.
الجدارية في متحف تورينو
اليوم، تحتضن مدينة تورينو في إيطاليا هذه الجدارية الرائعة في أحد متاحفها. إنها قطعة تقشعر لها الأبدان، تروي قصة إنسانية عميقة تتجاوز الزمن والمكان. قصة رعموزا هي دعوة للتفكير في ما يمكن أن يفعله الإنسان عندما يواجه حدوده، وكيف يمكن لليأس أن يدفعه إلى التخلي عن أعرافه وتقاليده، في محاولة أخيرة لتحقيق حلمه.
تظل هذه الجدارية شاهدًا على تلك اللحظات التي نرى فيها الإنسان محاصرًا بين قوى الإيمان واليأس، وبين الرجاء والتسليم، تسطر أمامنا قصة حياة ورغبة إنسانية خالدة في السعي وراء الاستمرارية، حتى وإن كان مصيرها الفشل.
كاتب المقال: مرشدة سياحيه باحثه في علم المصريات والشرق الادني