دكتورة ميرنا القاضي تكتب: أسرار القوى الخفية في عقيدة مصر القديمة
دكتورة ميرنا القاضي
في أعماق الزمن، حيث كانت الحضارة المصرية القديمة تسيطر على وادي النيل بملوكها العظماء ومعابدها الشامخة، لم يكن هناك ما يشغل عقول المصريين أكثر من سر الكون وقواه الخفية. في تلك الحقبة السحيقة، لم يكن الكون مجرد فضاء شاسع، بل كان كائنًا حيًا ينبض بالحياة والطاقة. المصري القديم، بعقله المتقد وإبداعه الفذ، لم يكتفِ بمراقبة النجوم والكواكب، بل سعى لفهم القوى الكونية التي تحرك هذا الكون العجيب. من هنا، وُلد مفهوم “النتر”، تلك الكائنات السماوية التي جسدت القوى الكونية في صور رمزية، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من عقيدة المصريين القدماء.
لكن لفهم ماهية هذه الكيانات ودورها، علينا العودة إلى العديد من المصادر مثل كتاب “آلهة مصر القديمة وأساطيرها” لروبرت أرمور، وكتاب “ديانة مصر القديمة” لأدولف إيرمان، بالإضافة إلى المصادر المباشرة مثل “بردية آني” في “كتاب الخروج للنهار”.
لكن هل تساءلت يومًا عن سر هذه القوى؟ هل كانت حقًا “آلهة” كما يُعتقد، أم أنها أسرار كونية أكبر من مجرد أسماء؟ انضم إلينا في رحلة استكشافية عبر الزمن، لنكشف معًا عن أسرار “النتر” ودورها في تشكيل عقيدة مصر القديمة.
النتر: قوى كونية وليست آلهة بمعنى تقليدي
من يقرأ التاريخ قراءة متعمقة سيكتشف أن المصريين القدماء كانوا أمة توحيدية تؤمن بإله أعظم يُدير الكون. بالرغم مما ذكره الباحثون الغربيون عن كثرة الآلهة وتعدد أسمائها في مصر القديمة، نجد إشارات عديدة في النصوص المصرية إلى وجود إله واحد أعلى، مثل تعبيرات: “ما يحدث هو أمر الله”، و”ما تزرعه هو عطية من عند الله”.”إذا جاءتكم السعادة حق عليكم شكر الله” هذه العبارات تعكس عقيدة توحيدية بعمق، كان هذا شعورهم وحديثهم لم يكونوا بمنأى عن العقيدة الحقة بل إن الخاصية الأولى للديانة (المصرية) هي وحدة (الإله) “هو الكائن الأوحد – الحي في الحقيقة – أنت الواحد، وملايين الكائنات انبثقت منك ــ خلق كل شيء وهو الوحيد الذي لم يخلقه أحد.و جاء في متون هرمس أن “الإله هو الواحد وكل شيء جزء من الكائن الواحد الأعلى”. هذا الإله واحد في وجوده، ولا يتكاثر ولا ينقسم، وهو خفي عن البشر لكنه يحيط بكل شيء. لم يتمكن علماء الآثار الأوائل من فهم هذه الفكرة بشكل كامل، فترجموها إلى “آلهة”، مما أدى إلى سوء فهم لمفهوم الإله في مصر القديمة.
التوحيد خلف التعددية: إله واحد وأدوار متعددة
رع وآمين: رموز الكون والخلق
رغم ما قد يبدو من تعدد الآلهة، كان المصريون يؤمنون بوحدة خفية تجمع هذه القوى تحت مظلة الخالق الأعظم. هذا الإله الواحد هو الذي أوجد الكون، وتفرعت عنه قوى النتر لتدير شؤون العالم وتحقق التوازن. في هذا السياق، نجد مفاهيم متطورة تتحدث عن إله كوني يختبئ خلف كل الظواهر، يدير الكون بكل دقة.
واحدة من أبرز هذه القوى كان “رع”، إله الشمس الذي خرج من “بحر نون”، وهو بحر من الطاقة والفوضى الكونية. يُمثل “رع” النور الذي أنار الكون، ورمز رع هو دائرة تتوسطها نقطة. النقطة تمثل الكون قبل الخلق، حيث كان الكون كامنًا في بحر نون. أما الدائرة فهي تعبير عن اتساع الكون بعد الخلق وظهور الأقطاب الكونية التي تُسير الكون. “آمين”، من ناحية أخرى، يعني الخفي أو الكامن، ويمثل العقل الكوني الذي يحرك كل الموجودات ويظل خفيًا، يمكن التعرف عليه فقط من خلال قواه الكونية المتجلية في “النترو”.
الوحدانية في العقيدة المصرية
الوحدانية كانت الفكرة المركزية في العقيدة المصرية القديمة، حيث رأى المصريون أن الكون والإله هما وحدة واحدة. حيث قال فيثاغورس الذي عاش في مصر 22 سنه و تعلم على أيدى كهنتها أن الأصل في الوجود هو الواحد الأحد و رقم واحد هو الرقم الحقيقي في الوجود . و انبثاق الكائنات الالهية من الخالق الواحد لا يعني التعددية, فبرغم ظهور الخلق لا نستطيع أن ندعى أن الموجوات أصبحت 2 أو 3 أو 4.
فما زال الوجود واحد لأن كل المخلوقات ان هي الا تجليات الاله الواحد الخالق واحد مهما تعددت قوانين الخلق و النترو برغم أنهم متعددين فهم في النهاية ليسوا الا واحد و قد مزج المصرى القديم أحيانا أكثر من نتر في كيان واحد مثل (آمین – رع) و (رع – حور – آختی) و (خبری – رع) . فالنترو اذا ليست منفصلة عن بعضها بل هي تمتزج أحيانا و تتعاون لتسيير منظومة الخلق
النترو: قوانين كونية وتجليات للإله
النترو هي قوى كونية أو قوانين طبيعية تنبثقت عن الخالق الواحد لتنظيم الكون. تحوت ( الحكمة)، حتحور (الحب والاحتواء)، شاو (القدر)، سيا ( الوعي والادراك)، حور (القوة والسرعة)، اوزير ( الخير)، سوت ( الشر) وايزة (الامومة والتوازن).هذه المفاهيم لم تكن مجرد أسماء للآلهة، بل كانت تصويرًا لقوى طبيعية أو معنوية رصدها المصري القديم في الكون
فقد يكون مفهوم النترو هنا هو تصوير لمعنى طبيعي رصده المصري القديم في احد الحيوانات المتواجدة في محيطه لذلك صنع ارتباط بين المعنى وجسده في صورة حيوان يمتلك قدرة خارقة، على سبيل المثال، طائر أبو منجل كان رمزًا للإله تحوت، لأنه كان يرى في هذا الطائر قدرة على معرفة ما هو خفي، تمامًا كما كان تحوت يمثل الحكمة والمعرفة بالغيب.
النترو والملائكة: تشابه المفاهيم
تشير العديد من النصوص المصرية إلى دور “النترو” في تسيير أمور الكون، بطريقة تشبه إلى حد كبير دور الملائكة في الأديان الإبراهيمية. فالنترو كانوا كائنات مكلفة بإدارة شؤون الكون وظواهره، مثلما نرى في صراع حورس وسوت، أو دور بتاح ورع، أو أنوبيس بجوار أوزير في إدارة مملكة السماء والعالم الآخر. فقد كانت هذه الكيانات مسؤولة عن تسيير شؤون الكون، كلٌ منها يؤدي وظيفة محددة، تمامًا كما توكل للملائكة مهام إدارة الكون في العقائد الدينية الأخري.
هذه الفكرة تعكس فهماً عميقًا للكون كمنظومة واحدة متكاملة، حيث تتضافر جميع القوى الكونية في سبيل الحفاظ على التوازن. فلم يكن المصري القديم ينظر إلى “النتر” كآلهة مستقلة، بل كقوى تتكامل مع بعضها البعض ضمن إطار كوني أكبر.
خرافة عبادة الحيوان في مصر القديمة
أحد أكثر المفاهيم الخاطئة التي التصقت بالحضارة المصرية هو فكرة “عبادة الحيوان”. والحقيقة أن المصريين لم يعبدوا الحيوانات كما يشاع، بل قدسوا الروح الإلهية التي كانت الحيوانات ترمز إليها. كان اختيار الحيوان لتجسيد تلك الروح يتم بعناية فائقة من قبل العلماء والكهنة في المعابد. فلم يكن أي حيوان يختار عشوائيًا، بل كان يمثل رمزًا لقوة كونية أو نتر محدد.
على سبيل المثال، كان الصقر يُمثل “حورس”، بينما كان الكبش يُجسد “آمون“. هذه الرمزية كانت وسيلة لتقريب المفاهيم الكونية المعقدة لعامة الشعب، وليس تعبدًا للحيوان ذاته. وما يعزز هذا الفهم هو أن المصريين كانوا يذبحون الحيوانات المقدسة في طقوس معينة، مما يدل على أن التقديس لم يكن عبادة بل احترامًا للطاقة الروحية التي يمثلها الحيوان.
الخلط البطلمي وتشويه العقيدة المصرية
لقد كان للعصر البطلمي تأثير كبير في خلط الأوراق بين العقيدة المصرية القديمة والمفاهيم اليونانية، مما أدى إلى انتشار فكرة عبادة الحيوان بشكل خاطئ. حتى أن المؤرخ الإغريقي هيرودوت وصف المصريين بأنهم يعبدون الحيوانات، دون فهم عمق فلسفة العقيدة المصرية. هذه الفكرة المغلوطة استمرت عبر القرون، وساهمت في تشويه صورة الحضارة المصرية حتى اليوم.
لكن الفهم الصحيح للعقيدة المصرية يكشف أن هذه الحضارة كانت تمتلك رؤية فلسفية معقدة عن الكون، تمثلها قوى النتر. لم يكن المصري القديم عابدًا للحيوانات أو متعدد الآلهة بالمعنى السطحي الذي قد يُفهم من الخارج، بل كان يقدس وحدة كونية تنبثق منها كل مظاهر الحياة.
إن الحضارة المصرية القديمة لم تكن مجرد حضارة مادية تهتم بالمعابد والتماثيل، بل كانت حضارة روحية ذات فهم عميق للعالم. “النتر” كفكرة فلسفية لا تزال تلهمنا اليوم، فهي تعكس رؤية متقدمة لوحدة الكون وتكامل قواه. وما يبدو لنا من تعدد الآلهة هو في الحقيقة ليست إلا وسائل لفهم القوى التي تدير الكون وفقًا لرؤيتهم. هذه القوى كانت جزءًا من منظومة الخلق والتطور الكوني، وهي تمثل قيمًا ومعاني أبدية جسدها المصري القديم في صور حيوانية ورمزية.
كاتبة المقال.. مرشدة سياحيه وباحثه في علم المصريات والشرق الادني