دكتورة ميرنا القاضي تكتب: الغردقة.. من شمس السياحة إلى دفء الإقامة

على شاطئٍ تلامسه الشمس طوال العام، حيث يتعانق دفء الرمال مع زرقة البحر، تنسج مدينة الغردقة خيطًا جديدًا من الحكاية السياحية لمصر. لم تعد وجهة عابرة للمصطافين، بل تحوّلت إلى موطن دائم لآلاف الأجانب الذين اختاروا أن ينسجوا تفاصيل حياتهم اليومية بين شوارعها وأسواقها ومدارسها، في مشهدٍ لم يعد غريبًا أن تسمع فيه لهجات أوروبية تنطق العامية المصرية ببساطةٍ وابتسامة.
تحوّلت مدينة الغردقة بمحافظة البحر الأحمر إلى نموذج فريد للتعايش بين الثقافات، حيث لم تعد مقصداً للسياحة القصيرة فحسب، بل موطناً دائماً لآلاف الأجانب من مختلف الجنسيات، في مقدمتهم الألمان والروس والبريطانيون، إضافة إلى تزايد أعداد المقيمين من أوروبا الشرقية كالبولنديين والتشيك والمجريين.
وفق تقديرات غير رسمية، يقيم بالغردقة أكثر من 20 ألف أجنبي إقامة دائمة أو شبه دائمة، مدفوعين بعوامل جذب لا تخطئها العين: طقس دافئ طوال العام، انخفاض تكلفة المعيشة مقارنة بأوروبا، بيئة آمنة، وتنوع ثقافي واسع تقابله المدينة بترحاب وانفتاح.
وبات من الطبيعي أن ترى مطاعم أوروبية، مدارس دولية متعددة الجنسيات، مهرجانات ثقافية مختلطة، بل وحتى مشاريع يديرها أجانب ومصريون معًا. وامتلك عدد كبير من المقيمين الأجانب وحدات سكنية، وأسسوا مشروعات صغيرة كالمخابز، المقاهي، أو ورش الحرف اليدوية، في انسجام لافت مع السكان المحليين.
فنادق الغردقة بدورها أعادت تشكيل خدماتها لتلائم هذا الخليط المتنوع؛ إذ أصبحت تقدم قوائم طعام متعددة الثقافات، وخدمات ترجمة، وتطبيقات حجز إلكترونية تتيح تخطيط الإقامة بسلاسة. كما تنظم رحلات سفاري، وغوص، وبرامج ترفيهية تراعي اختلاف الأذواق.
الألمان السوق السياحي الأول للغردقة
من جهة أخرى، يمثل الألمان السوق السياحي الأول للغردقة، إذ تستقبل المدينة رحلات منتظمة ومباشرة طوال العام. أما الروس، فرغم التحديات السياسية، حافظوا على حضورهم القوي، لا سيما في الشتاء. واستمر تدفق السياح من بولندا والتشيك والمجر، مستفيدين من تنافسية الأسعار وجودة الخدمات، ما ساهم في ارتفاع معدلات الإشغال الفندقي التي تتراوح بين 70% و90% طوال العام، وقد تصل أحيانًا إلى 100% في ذروة المواسم.
وتسعى المدينة إلى تعزيز هذا النمو المستدام عبر استقطاب استثمارات عقارية وسياحية جديدة، وزيادة الطاقة الفندقية، بما يتواكب مع تزايد الطلب من الأسواق التقليدية والجديدة، خصوصًا من دول الخليج وآسيا.
شوارع الغردقة تجربة إنسانية عالمية
وفي شوارع الغردقة اليوم، قد تسمع حكايات حب بين فتاة ألمانية وشاب من الصعيد، أو ترى طفلاً روسيا يغني أغنية مصرية في طابور المدرسة، أو تجد سيدة بولندية تساوم على سعر الخضار في لهجة مصرية مكسرة، لكنها دافئة وصادقة. إنها الغردقة التي لم تعد مجرد مدينة سياحية، بل تجربة إنسانية عالمية تعيشها كل يوم.
الغردقة لم تعد وجهة على خارطة العطلات، بل أصبحت على خريطة القلوب.. مدينة تعلّم فيها البحر أن يتحدث بلغات كثيرة، لكنه لا ينسى أن يهمس بالعربية.