دكتورة ميرنا القاضي تكتب: حرخوف المصري..أول من سطر أدب الرحلة

في قلب الرمال الصامتة، حيث تهمس الرياح بأساطير لم تُروَ، كان هناك رجل يسير في الصحراء لا بحثًا عن المجد، بل عن المعرفة. لا لهوى الترحال، بل ليحمل لوطنه كنوزًا من الذهب، والعاج، والغرائب، والحكمة.
قبل ماركو بولو، وبألف عام من هيرودوت، وقبل أن تبحر سفن ماجلان في المجهول، خطا رجل مصري يُدعى حرخوف (Harkhuf) أولى خطوات البشرية نحو الاستكشاف المنهجي، وثّق رحلاته على جدران مقبرته في “قبة الهوا” بأسوان، كأنما أراد أن يقول: “أنا أول من سار في طريق لا يُرى، وعاد يحكي ما لا يُصدق.”
من هو حرخوف؟
“حرخوف” هو اسم مصري قديم يعني “المقدّس هو حف“، وقد حمل ألقابًا رفيعة منها:
المشرف على قوافل الجنوب، وحاكم إلفنتين (جزيرة الجنوب المصري قرب أسوان) ، ووكيل الملك في أراضي النوبة.
عاش في أواخر عهد الدولة القديمة، في الأسرة السادسة (نحو 2300 ق.م)، خلال حكم الملكين مِرِن رع وبيبي الثاني، وعلى الرغم من مرور أكثر من 4200 عام، لا يزال يُعد أحد أعظم المستكشفين في التاريخ، بفضل رحلاته الأربع التي خلدها على جدران قبره بأسلوب أقرب إلى أدب الرحلة منه إلى النقش الإداري.
أربع رحلات إلى قلب أفريقيا
سافر حرخوف أربع مرات إلى “أرض يام”، وهي منطقة غامضة جنوب غرب النوبة، يُعتقد أنها تقع اليوم بين جنوب السودان وشمال أوغندا. كانت تلك الأراضي تُعد حينها عوالم مجهولة، يسكنها شعوب غريبة، وتفيض بخيرات لم يعرفها المصريون من قبل.
الرحلة الأولى: افتتاح الطريق
بتكليف من الملك مِرِن رع، قاد حرخوف قافلة إلى يام، وعاد محمّلًا بالبخور، والعاج، وجلود النمور، وقردة البابون. كان الهدف مزدوجًا: فتح طرق تجارية آمنة، وتكوين علاقات دبلوماسية مع زعماء الجنوب.
الرحلة الثانية: في قلب الخطر
استغرقت 8 أشهر ذهابًا وعودة، وواجه خلالها حروبًا قبلية واضطر لتغيير مساره. ومع ذلك، عاد دون أن يفقد رجلًا واحدًا، وكتب بفخر: “لم يضع مني أحد، لم يمت مني أحد، ولم يُنقص من أشيائي شيء.”
الرحلة الثالثة: أعينٌ ترصد ومراسلات توثق
رافق خلالها مسؤولًا آخر من البلاط، ودوّن تقارير مفصلة عن شعوب الجنوب، وطبائعهم، ومواقعهم، وعلاقاتهم ببعضهم. تُعد هذه الوثائق من أقدم ما وصلنا عن وعي المصريين بالجغرافيا السياسية خارج حدود وادي النيل.
الرحلة الرابعة: القزم العجيب ورسالة ملكية
أكثر الرحلات شهرة، حيث عاد ومعه “قزم راقص” طلبه القصر الملكي لإدخاله في طقوس العبادة والاحتفالات. لكن ما خلد هذه الرحلة حقًا، هو رسالة الملك بيبي الثاني، وهو طفل على العرش، إلى حرخوف، وقد نُقشت على جدار القبر.
“وقد خُلدت هذه اللحظة في رسالةٍ ملكية نادرة، أرسلها الملك الصغير إلى سفيره في الجنوب، وجاء فيها: “لقد سمعت ما قلته في رسالتك، بأنك أتيتَ من أرض يام ومعك قزمٌ لحلبات الرقص للرب، ليُسلي قلب الملك، ويُبتهج به القصر الإلهي،
أرسل هذا القزم حيًّا، قويًّا، سليمًا إلى القصر، ليرقص للملك ويفرحه، وإذا وصلتَ به سليمًا، فسوف أفعل لك ما لم يُفعل مع أي موظف في البلاط من قبل، لأنه كنز نادر، وقدومه يسعد قلبي كثيرًا.”
هذه الرسالة ليست فقط توجيهًا إداريًا، بل قصيدة في فن العناية والتقدير، وتُعد من أقدم المراسلات الملكية ذات الطابع الإنساني في التاريخ.
(راجع: James Henry Breasted, Ancient Records of Egypt, Vol. I, pp. 314–316)
قبره: كتابٌ مفتوح من الصخر
نُقشت سيرة حرخوف على جدران قبره بـ”قبة الهوا”، غرب أسوان (قبر رقم T100)، بأسلوب سردي تفصيلي، يصف تحركاته، وتحدياته، وأسلوبه في المفاوضات، وحتى طرق تأمين قوافله.
إنه أول نص ذاتي لمستكشف في العالم، ما يجعله ليس فقط رائدًا في الترحال، بل رائدًا في كتابة أدب الرحلة قبل أن تُولد هذه الفكرة بقرون طويلة.
حرخوف: سفير مصر إلى المجهول
لم يكن مجرد موظف، بل عُيْنُ مصر على حدودها، ولسانها الدبلوماسي في أرضٍ لا تعرف الخريطة، وساعيها الحكيم الذي يجمع العجائب من أجل المعرفة، لا من أجل الفتح.
“سافرتُ لأجل ملكي، ولأجل الحق.” عبارة نقشها حرخوف في نهاية مذكراته، لتُجسّد روح المغامرة المصرية، التي لم تبحث عن السيطرة، بل عن التبادل الإنساني.
“حرخوف… رجل كتب بداية الاستكشاف قبل أن نرسم حتى أولى خرائطنا.”
حين كانت مصر تقود الريادة
حرخوف لم يحارب في ساحات الملوك، لكنه قاتل في صحراء القلوب، وسافر آلاف الأميال ليروي لنا قصصًا لا تزال تُدهشنا.
كان رجلًا سبق عصره، وسبق حتى مفهوم “الاستكشاف”، كأنه صوت مصر وهي تتحدث إلى القارات، لا بالسيوف، بل بالكلمة والقافلة.
وفي زمنٍ تاهت فيه البوصلة، لعلنا نعيد اكتشاف أرواحنا عبر خطى هذا الرجل، الذي كتب على حائط قبره: “لم أترك فقيرًا جائعًا، ولم أسمح بظلم في بلادي، وسافرت لأجل ملكي، ولأجل الحق.”
فأي بداية أروع من هذه لبدايات الاستكشاف؟