حكايات النائحة

>> أدركت متأخراً أن للزمان رائحة ، ولم أكن أعلم أن لحكمة الله أن يكون لكل وقت رائحة مختلفة فكل هذا دار فى ذهني، وأنا فى طريقي إلى بيت جدي القديم، فلماذا هذا القرار اليوم؟.
>> قصة طويلة سأخبركم بها فيما بعد، ولكن عندما قررت الدولة إزالة منازلنا لإكتشاف ما تحتها من مقابر فرعونية تركوا جزءاً لا أدري عن عمد من أطلال منزل جدي، لا أدري لماذا؟، فبدأ المنزل يلوح من بعيد، أو ما تبقي منه، وكأنه جزء من الجبل أو كأنه جزء من الجيل أو من التاريخ، فالطريق غير ممهد أربكني بل زاد من ضربات قلبي، وتساءلت وكدت أن أعود أدراجي مرة أخري.
>> لماذا هذا الإصرار اليوم على زيارة أطلال بيت جدي، وما هذة القوة الخفية التى دفعتني أن أتخذ هذا القرار الذي ترددت فيه كثيراً، ولماذا هذه المرة، ولأن حراس المنطقة يعرفونني فقد سمحوا لي بالمرور فى دروب الجبل رغم أن هذا ممنوع، ولكنهم مهدوا لى الطريق حتى أصل إلى أطلال بيت جدي القديم.
>> لحظات رعب، زادت ضربات قلبي واحدة تلو الأخرى، وأنا أقترب من منزلاً عشت فيه، ولكن لماذا هذه المرة، تلك حكاية، ولماذا هذا الوقت، ولماذا هذا الإختيار أن تكون الزيارة فى آخر ساعات النهار؟، تلك أيضا قصة أخرى، ولكن من الغريب أنني وقفت أمام الباب الرئيسي للمنزل حتى وجهت وجهي ناحية الغرب، والغرب عند المصري القديم، والحديث هو الاتجاه للعالم الآخر حيث أعطيت ظهري للباب وهذه هى سبب الزيارة.
>> ما سأقوله الأن أمضيت أوقات طويلة أرتب هذا، وأتراجع عنه، ولكني قررت فى هذا اليوم أن أقوم به وراقبت بخوف، ورغبة باب المقبرة، وهذه المقبرة التى طالما كثيراً، وكثيراً توقفت أمامها، وتساءلت كثيراً لماذا أراد جدي أن يختار هذا المكان، لإنشاء منزله، حيث كان الجبل متسعا أمامه، ولماذا بنى منزله على أطلال هذه المقبرة تحديداً.
>> المنطقة كلها تسمي بأسم المقبرة، وأنها تعني رع موزا، وهذا أسمها الأصلي رع موزا، ومعروفة فى الصعيد بهذا الأسم، فهذه المقبرة رائعة الجمال شكلت جزء من وجداني فى سنوات عمري الأولى، رائعة الجمال والخوف أيضا، و يبدو هذا التعبير عريباً، ولكنها حقاً رائعة الخوف فهي مخيفة لدرجة أن تمتلكك تماماً، وفى هذا اليوم، وبعد أن طاردتني كثيراً التجربة التى سنقوم بها الأن ، قررت أن أفعلها بعد أن رسمت فى خيالي لها أكثر من سيناريو، قررت اليوم أن أواجه ما كنت أراه كثيراً فى أحلامي، ولا أبالغ إذا قولت فى يقظتي.
>> رع موزا ، كان لديه هذا الجبل، ومات فجأة، وهذا كان غريباً، ومازال يلفه الغموض، وترك المقبرة لتروي لنا لحظة وفاته، وكل هذا متداول فى التاريخ المصري، ولكن هناك صورة واحدة طالما كثيراً وكثيراً طاردتني وهى لسيدة.
>> وما أن تقف أمام باب المقبرة إلا وتجدها تنظر إليك، وكأني أشعر أن هذه المرأة أصبحت جزء من حياتنا، وخرجت من هذة المقبرة لتنعي كل ميت، إنها النائحة، وهذا موضوع طويل جداً، طاردني كثيراً لحظة الخروج من العالم إلى ما مر فى خيالي، وأنا أقف على باب المقبرة جمعت شتات أمري.
>> قررت أن أخطو أولي خطواتي، وتوقفت كثيراً أمام الباب الذى سيقودني إلى الحلم، وهو ماذا يوجد فى العالم الآخر، ومن هذه السيدة النائحة التى طالما حلمت أنها تنظر إلى لتخفيني، وقررت اليوم أن أواجهها بعد هذه السنوات.
>> نعم قررت المواجهة بأن أنظر فى عينيها، تلك العيون المرعبة والتى طالما أخافتني، قررت اليوم بعد كل هذه السنوات من العمر أن أنظر إليها، بالرغم من أنني زرت المقبرة مئات المرات، ولم أجرأ يوماً على النظر إليها لتتلاقي عيوننا، ولكني أدركت لحظتها أنها تقول لي أخيراً أتيت، وأخيراً سأفرح وكأنني كنت الرجل الذى حبسها فى هذا المكان، وكأنها تقول لى أنتظرتك طويلاً.
>> أدركت أن هذه السيدة مازالت تعيش بيننا أنها النائحة تلك المرأة التى مازالت تنظر إلى الجميع فى مقبرة رع موزا الشهيرة والتى توجد فى حال وفاة كل من يمت فى جبل التونة، هذا الجبل الذي أعود، وأقول أن له رائحة مرة أخري رمقتني بنظرة أدارت بي الدنيا ليرتطم جسدي على الأرض، وأغيب فى ثبات عميق.