
جبل تجلى عليه الخالق الكريم لنبيه موسى بن عمران عليهما السلام وفي الوادي المقدس أمره أن يخلع نعليه لقداسته
“رحلة بجوف الليل” هكذا وصفها الرحّالة والموثق العالمى الأستاذ عبد الرحيم العرجان ويصف لنا رحلته صعودًا إلى قمة جبل موسى.
بعد يومين من الراحة والاستجمام في دهب ومسير لأيام بأودية وفيافي سيناء ما زال جسدنا يطلب المسير الطويل فكان خيارنا بمسار مختلف كليًا جمع ما بين قدسية المكان وعبق التاريخ وجمال الطبيعة والفكر والمعرفة لتكون الوجهة صعود جبل موسى وزيارة دير سانت كاترين.
رتبنا الرحلة مع الشركة على أن تأتي الحافلة لتقلنا من الفندق بمنتصف الليل ببرنامج معلوم وسعر متفق عليه وذلك بهدف بلوغ القمة سيرًا على الأقدام ومشاهدة الفجر هناك والذي وصف لنا على أنه أجمل ما يمكن أن نشاهده من شروق بسيناء قاطبة ومن أعلى جبل بمصر بارتفاع 2285 متر، وبالفعل وصلنا مركز الزوار بعد ساعتين من القيادة ولقاء مرشد المجموعة من البادية والذي يتم اختياره بالدور.
شعور الهيبة
فما أن تهمّ بالمسير حتى تتذكر قوله تعالى ” إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى” لتدب في قلبك هيبة المكان ورهبته.
ظلام دامس يحف بك إلا من بعض إضاءة يحملها السائرين نحو القمة في جوف الليل يخيّل لك بأنها كواكب درية تتحرك على الطريق المعلم والممهد بعناية من قبل الرهبان، والمطور من قبل الدولة ليتناسب مع مختلف الفئات العمرية والقدرات الجسدية ويتسع المسار أيضا لركاب الرواحل دون مزاحمة وأعمدة أسمنتية صممت بعناية تشير للارتفاع مقرونة بالمسافة المقطوعة والمتبقية من الطريق مما يعطي الغير متمرس على الصعود روح العزيمة مع توفير مقاعد كافية للإستراحة، وكلما ارتفعت أكثر انخفضت درجة الحرارة وازدادت البرودة حتى وصلنا كشك لبيع المشروبات الساخنة تجمع حوله الكثير من الناس من مختلف الجنسيات والعقائد والأعمار كما يمكن إستئجار بطانيات للوقاية من برد المكان لمن نسي أن يحتاط بملابس كافية وهنا تصبح الطريق أكثر ضيقًا وحدّة وهي النقطة الفارقة في الجبل للولوج بشق ممهّد بدرجات يثير هيبة الوصول إلى القمة ينسل فيه الزوار بصمت بليغ.
شعاع الفجر
ونستكمل الرحلة مع الرحّالة والموثق العالمى الأستاذ عبد الرحيم العرجان الذى يشير إلى أن بلوغ قمة الجبل يأخذ عقلك بالتفكير بعلو المكان الذي كلم الله تعالي فيه نبيه موسى عليه السلام وأقسم به تشريفًا وتكريمًا حتى يبدأ شعاع الفجر ينسل ما بين سلاسل لا تنتهي من الجبل حادة القمم معلنًا يوم جديد وكأنما الشمس ترتفع درجة درجة مع كل خفقة من دقات قلبك فهيبة المكان عظيمة لا توصف.
وما أن ينجلي الظلام حتى تبدأ بتفحص المكان والأفق من جبل المناجاة وسربال بقممه الخمسة كالتاج والصفصاف في الأسفل الذي أقيم عليه مقام نبي الله هارون أخو موسى الواقع في بداية الطريق إلى الدير والذي لم يثبت وجود جثمانه فيه في حين أنه له مقام آخر مع قبر مبني في جبال البترا.
وينوه الرحّالة عبد الرحيم العرجان إلى بناء كنيسة يعود بنائها الأول لباني الدير فى القرن السادس الميلادى مجاورة للجامع بمساحة محدودة على رأس القمة دليل على أهمية المكان والتسامح ما بين أتباعهم وحولهم اجتمع مئات الزوار من شتى الأصول والمنابت ساكنين لهذه اللحظة حتى جاءت ساعة النزول من نفس الطريق وصولًا إلى دير سانت كاترين المبني بحضن الجبل على أحد فروع وادي الشيخ.
دير سانت كاترين
ويتابع العرجان: لم يستغرقنا النزول وقت طويل حتى بلغنا دير سانت كاترين الذي تم بنائه من قبل الإمبراطور جستنيان الأول 548 -565 م منسوبًا بالتسمية للقديسة كاترين الأميرة الاسكندرانية المعمدة عام 305 م التي استشهدت إثر تعذيب فى عهد الإمبراطور الظالم مكسيمانوس بالموت بعجلة التكسير الشائكة التي تحطمت قبل تنفيذ الحكم ليأمر بقطع رأسها علنًا
وفي الدير هناك صندوق رخامي يحوي جمجمة ويد القديسة الشهيدة وهو من عمل نصر الله الشاغوري الدمشقي، وأحيط الدير بسور مربع منيع يدعمه أبراج حماية بمزاغل سهام تحولت فى العصر العثمانى لفتحات مدافع صغيرة تعود لعهد السلطان العثماني سليم الأول وأبواب علوية إضافية معلقة غطيت مداخلها بأقفاص خشبية وهو من عمل المعماري نقولا وهبة ووهبة ابراهيم وهما بنائين من أبناء الشام.
ويضم أيضا العديد من المنشئات الدينية ببناء تراكمي من عدة عصور يضم منازل رهبان وزائرين ومخازن مؤن ومطابخ وفرنين وطاحونتين للحبوب ومعصرة زيتون وعدّة آبار ينساب إليها الماء من ثلاثة ينابيع داخل حرم السور، بالإضافة لحديقة تضم عدد من أشجار الفواكهة والزيتون وغيرها وزرع ما بينها الخضار والبقوليات وبذلك يكون الدير مؤهلًا للخلوة الدينية والإكتفاء الذاتي بجوف بادية سيناء كما تملك إدارة الدير عددًا من البساتين خارج الأسوار.
ولِمنعة المكان تم تصغير أبوابه ومنها من توالى بباب آخر مرورًا عبر دهاليز توصل إلى هيكل الكنيسة البديعة بالنفائس والمزينة بلوحة دقيقة من الفسيفاء متقنة الرص والتشذيب يخيّل لك بأنها صورة فوتوغرافية أو لوحة رسم تعبيرية تمثل صورة السيد المسيح والرسل والأنبياء ومؤسس الكنيسة، ومقطع آخر لسيدنا موسى عليه السلام تحفه الملائكة حين تسلم الوصايا العشر وقد حمل سقفها على جذوع الصنوبر علق فيه نفائس الفوانيس متقنة الصنع كانت أهديت من الزائرين بعصور مختلفة ويمنع فيها التصوير.
كنيسة العليقة والجامع ومكتبة النوادر
ونوه الرحّالة عبد الرحيم العرجان إلى كنيسة العليقة الملتهبة التي ناجى النبي موسى كليم الله ربه عندها وهي نبتة بلا ثمار، دائمة الخضرة طوال العام، وفي داخلها منبر أثري خشبي كتب عليه “وقف الفقيد ابراهيم مسعد الحلبي” وبجانبها بئر معروف ببئر العليقة، فما من شبر بالمكان إلا وله قصة ومرجع ديني وتاريخي.
وضمن حرم الدير أقيم جامع باستخدام طوب وحجارة الجرانيت يتناوب على خدمته أولاد سعيد حصرًا وبه منبر نفيس وهذا دليل جازم على مدى التسامح فيما بين أهل المكان.
أما المكتبة الواقعة في الطابق الثالث فتضم زهاء 4500 مخطوط في المجال الديني والأدبي والتاريخي ومنها نسخة من العهدة النبوية ومزامير داود والتوراة اليونانية وأول إنجيل كتب بالخط السرياني على جلد غزال.