[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

دكتورة ميرنا القاضي تكتب: المرأة المصرية بين الإلهة والكاهنة والحاكمة

في فجر التاريخ، عندما كانت الحضارات الأخرى تنظر إلى المرأة ككائن تابع، كانت مصر القديمة ترفعها إلى مرتبة الألوهية. لم تكن الأنوثة مجرد صفة بيولوجية، بل قوة كونية تتجسد في الشمس التي تشرق كل صباح، وفي النيل الذي يمنح الحياة، وفي السماء التي تبتلع النجوم لتلدها من جديد.

المرأة المصرية لم تكن مجرد أسطورة، بل إلهة، حاكمة، وكاهنة. انعكس هذا التقديس في المعابد، القوانين، والحياة اليومية.

الميثولوجيا المصرية: الأنوثة كقوة كونية متكاملة

1. التوازن بين الذكورة والأنوثة

ركزت الأساطير المصرية على ثنائية الذكر والأنثى كأساس للخلق، مثل:

شو وتفنوت (الهواء والرطوبة).

جب ونوت (الأرض والسماء).


لم تكن الأنوثة مجرد مكمل للذكورة، بل قوة مساوية تحافظ على “ماعت” (العدل الكوني). تجاوزت الإلهات المصرية الأدوار النمطية مثل الخصوبة والأمومة، فمثّلن الحرب (سخمت) وحتى إدارة الزمن (نوت)، مما جعل الأنوثة عنصرًا جوهريًا في كل جوانب الحياة.

الإلهات المصرية: كيف تجسدت الأنوثة كقداسة؟

1. إيزيس: الساحرة الخالدة وأم الملك الإلهي

ليست مجرد إلهة للأمومة، بل سيدة السحر الأعظم، استطاعت إحياء أوزيريس وإنجاب حورس الذي جسّد العدالة والنظام الإلهي.

نموذج للأم والزوجة الحكيمة التي تحارب الفوضى وتعيد التوازن.

2. حتحور: سيدة الفرح وحامية الملوك

رمز البهجة والخصوبة، لكنها أيضًا حامية الملوك التي تمنحهم الشرعية.

تُلقّب بـ “سيدة الغرب”، حيث تستقبل أرواح الموتى وترشدهم إلى الحياة الأخرى.

3. سخمت: إلهة الحرب والشفاء

برأس لبؤة، تجمع بين الانتقام والشفاء.

المصريون آمنوا بأن سخمت يمكنها جلب الأوبئة أو شفاؤها، مما منحها دورًا مزدوجًا في العقاب والحماية.

4. موت: الإلهة الأم وحامية العرش

تُعتبر “الإلهة الأم” ومرتبطة بالإله آمون.

تاج النسر الذي ترتديه يعكس دورها في الحماية والسيطرة، وهي تجسيد للأنوثة الملكية.


5. تفنوت: إلهة الرطوبة والخلق الأولي

تمثل عنصر الماء، وهي جزء أساسي من أسطورة الخلق مع شو.

مرتبطة بالحياة والنمو، مما جعلها إلهة محورية.

6. نوت: السماء الحامية وأم الآلهة

جسدت السماء نفسها ومسؤولة عن دورة الزمن، حيث تبتلع الشمس مساءً وتلدها مجددًا عند الفجر.

رمز الحماية والاحتواء، حيث يُعتقد أنها تغطي العالم بجسدها.


7. باستت: إلهة الحماية والفرح

تُصوَّر كقطة، رمزًا للمرح، الموسيقى، والمتعة، لكنها تتحول إلى لبؤة شرسة عند الحاجة.

تمثل ازدواجية الأنوثة بين اللطف والقوة.

المرأة ككاهنة: الوسيطة بين العالمين

لم يكن تقديس الإلهات مجرد مسألة دينية، بل انعكس على دور النساء في المعابد، حيث وصلن إلى مراكز روحية عليا، مثل “زوجة الإله آمون” التي أدارت أملاك المعابد وكان لها تأثير سياسي.

أشهر النساء اللاتي حملن هذا اللقب:

عنخنس با بي آمون

شبنؤبت الثانية (تفاوضت مع حكام النوبة)

نِسْ خنسو


كاهنات حتحور وإيزيس

كاهنات حتحور كن مسؤولات عن الموسيقى والرقص في المعابد، حيث كانت هذه الطقوس ضرورية لاسترضاء الآلهة.

كاهنات إيزيس حملن “سر الكلمات المقدسة”، أي التعاويذ والطقوس السحرية لحماية الروح بعد الموت.

كاهنات سخمت: الطبيبات المقدسات

نظرًا لدور سخمت في الشفاء، كان لكاهناتها دور طبي أيضًا.

آمن المصريون بأنهن يمتلكن القدرة على علاج الأمراض من خلال التعاويذ والطقوس المقدسة.

 

 

المرأة المقدسة في الحضارات الأخرى: مقارنة عابرة

بلاد الرافدين: المرأة بين الألوهية والتبعية

رغم وجود إلهات مثل عشتار (إلهة الحب والحرب)، لم تكن المرأة تتمتع بدور اجتماعي متقدم.

قانون حمورابي (المواد 129-132) منح الرجل سلطة مطلقة على المرأة، حتى حق إعدامها بتهمة الزنا.

اليونان وروما: من الألوهية إلى التهميش

رغم وجود إلهات مثل أثينا وأرتميس، كانت المرأة اليونانية تحت سيطرة الرجل بالكامل.

أرسطو وصف المرأة بـ “الذكر الناقص”، مما يعكس النظرة الذكورية المتطرفة.

في روما، تحسّن وضع المرأة نسبيًا، لكنها لم تصل إلى المناصب الدينية العليا، التي بقيت حكرًا على الرجال.

لماذا تفوّقت مصر في تقديس الأنوثة؟

1- العامل الجغرافي والثقافي: النيل والخصوبة الأنثوية

النيل كرمز أنثوي: ارتبط بـ “إلهة الفيضان” ساتيس، مما جعل المرأة تُقارن بمصدر الحياة نفسه.

الزراعة والاستقرار: اعتماد مصر على الزراعة جعل الخصوبة قيمة مركزية، بينما ركزت حضارات مثل بلاد الرافدين على الحروب (الذكورة) بسبب عدم استقرار أنهارها.

2- التفسير الأنثروبولوجي: الديناميكية الاجتماعية

غياب الفصل بين العام والخاص: في مصر، لم تُحصر المرأة في المجال الخاص كما في اليونان، بل شاركت في الأعمال العامة والتجارة والإدارة (كما في حالة الملكة حتشبسوت).

المرأة كحارسة للتراث: نظرًا لهجرة الرجال للحروب أو التجارة، كانت النساء يدِرن المنازل والأراضي، مما عزز مكانتهن كرموز للاستقرار.

لم تكن المرأة المصرية مجرد ظل للرجل، بل كانت شريكته في الحكم، كاهنته في المعبد، وأمه الروحية في العالم الآخر. كان تقديس الأنوثة في مصر القديمة انعكاسًا لواقع اجتماعي أكثر انفتاحًا مما كان عليه الحال في الحضارات الأخرى.

المرأة لم تكن فقط رمزًا للحياة، بل كانت القوة التي تحميها، تنظمها، وتضمن استمرارها عبر الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى