[ الصفحة الأولى ]تاريخ وحضارة

لماذا اختفت رسوم المناسك من على جدران منازل أم الدنيا؟

دائما خلال موسم الحج وقبل هلال أيامه تدور فى مخيلتنا رسوم الحج التي كانت تزين جدران البيوت في الحارات والشوارع المصرية، لقد ابتكر الفنانون الشعبيون مظاهر عديدة للاحتفال برحلة الحج، منها تزيين الحوائط الخارجية بعبارات ورسوم أصبحت بمرور الوقت أيقونات ثابتة، مثل رسم سفينة أو طائرة أو جمل أو خيل أو صورة مجسمة للكعبة الشريفة، وعبارات شهيرة مثل “حج مبرور وذنب مغفور”، و”لبيك اللهم لبيك”، و”مبروك يا حج”، فضلاً عن الآيات القرآنية الخاصة بالحج، أو برسم بيت الله الحرام والمناسك المختلفة خلال أداء فريضة الحج، وهي رسومات تعكس ثقافة المجتمع، فكانت هذه الرسومات من أهم العادات التي تستقبل الحجاج عند العودة إلى بيوتهم.

كان الحجاج قديما يخوضون رحلة صعبة وشاقة لبلاد الحجاز، وكانت محاولة تسجيل وقائعها أمرًا مهمًا وجانبًا يدعو للفخر بين المقربين بأداء مناسك طاعة الله والتبرك بها فى حياتهم، ومن جهة أخرى فإن هؤلاء البسطاء عادة لم  يسافروا رحلة سواها لخارج القطر المصري، فكان الرسم لهم بمثابة التوثيق للحدث.

وقبل انتشار صور الحج و بيت الله الحرام علي الميديا وقبل عصر التكنولوجيا، كان الحاج يروي عند عودته ماذا رأي وشاهد للمحيطين به، ويقوم الفنان بالرسم ليتمتع الجميع بما رآه الحاج في رحلته .

ينكب الشاب الفنان طه عيد السلوى على أدواته التقليدية يُحضر الألوان لوالده، يمزج عددًا من الألوان، لتظهر بصيغتها النهائية الأخضر والأحمر والأصفر، ثم يقوم بتنفيذ الرسومات، ويساعد والده على تنفيذها، هنا فى أسوان مثل كافة مراكز وقرى الصعيد، تواجه رسومات الحج شبح الاندثار ولم يبق فقط سوى التلوين فى مواسم الأفراح، حيث مازالت قرى أسوان دون غيرها من قرى الصعيد، تُصمم على السير فى هذه العادة الشعبية الرائعة، وهى تلوين المنازل فى أوقات الفرح.

يؤكد أحد الشاب الذي يدرس فى معهد ترميم الآثار  أن رسومات الحج فى القرى تواجه الاندثار، لتنتهى بذلك الطقوس التى كان يستعد لها أهالى الحجاج القادمين من حج بيت الله الحرام وزيارة قبر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، مضيفا أن الألوان التى تُزين المنازل، وترصد ما يحدث فيه من طقوس أصبحت شاهدًا تاريخيًا على زمن مضي، فالفنان لابد أن يُدون التاريخ  بفرشاته وألوانه، ولابد أن يوقع بتوقيعه على الرسومات.

وأوضح الشاب أن رسم الخيول على جدران المنازل قد يستغرق نحو 3 ساعات متصلة، مؤكدًا أن أفضل ما فى الجدران أنها تقدم متحفًا مفتوحًا لتراث الصعيد، مُطالبًا أن تهتم المؤسسات الثقافية بهذه الرسومات، وأن ترعى الفنانين القُدامى الذين خدموا هذا الفن الذي لايتواجد إلا فى الصعيد.

وبالإضافة لرسومات الحج التى انكب عليها الفنان عيد السلوى والد الشاب طه بأدوات فنية تقليدىة، تبقى رسوم الخيول ذاكرة حية للأهالي، فرسوم الخيول  لن تجدها إلا فى قرى أسوان التى تحتفى بعالم الخيول، ورغم أنها غالبا ما تكون مرتبطة بشعائر الحج، خاصة حين يقوم الفنان برسم الحاج القادم ورسم هيئته وعشقه وسرد تاريخه كفارس مُحنك فى المرماح وفنون الصابية “سباقات الخيل”، إلا أنها أيضا ربما تكون منفصلة فهناك من يطلبها حتى لولم يؤد الشعائر وعلى الفنان أن يستجيب.

كانت الرسوم القديمة الباقية على الجدران منذ أربعينيات القرن الماضي، تتناول الحاج وهو راكبًا حصانه، وذلك من خلال الأدوات القديمة التى كان يستعين بها الفنان، والتى تتكون من الجير والأوكسيد والبيض، وكانت أكثر الألوان استخدامًا هي الأزرق المصنوع من الزهرة “النيلة” ،أما الفرشاة المستخدمة فى التلوين فكانت تصنع يدوياً من شعر الماعز وتثبت فى خشبة، وفى بعض البلاد تستخدم فرشاة من الجريد الذى تستعمل ألياف طرفه كفرشاة، ورغم التطورات التى حدثت فى الألوان والفرشاة، إلا إن الفنان عيد السلوى يعشق التلوين بالفرشاة التقليدية المصنوعة من جريد النخيل، التى يراها أنها الأفضل والأكثر حنكة على إظهار الرسومات بدقة.

وعلى جدارن المنازل فى أسوان، رسم العم عيد الخيول بأسمائها التي أعطتها له الفوارس، حيث كان لكل حصان اسم ولقبه يهبه له صاحبه ويحتفي به هنا في عالم الفوارس، و إذا مات الحصان يؤخذ عزاؤه كإنسان، وإذا مات الفارس توصم جباه الخيول بالطين حدادًا وحزنًا علي صاحبها، وهو حداد يشارك فيه كل عاشق للخيل.

وبأدوات طبيعية رسم العم عيد خيل “القصبجي” وهو خيل من مركز إدفو ضمن قرية اسمها “المريناب”، و”القصبجي” من أشهر خيول الصعيد الذي حاز على عدة جوائز في سباقات المرماح، وكذلك خيل العمدة علي أبو محمود وغيرها، من الخيول حيث كان على العم عيد السلوي أن يرسم على المنازل الخيل الغالب والمغلوب، حيث تتحول جداريات المنازل إلى تاريخ مواز للسباقات التي يقيم لها الصعايدة مواسم ومواقيت يطلقون عليها السباق أو المرماح.

ومن القواعد المهمة، أن الفارس فى الصعيد لابد أن يكون صاحب دراية بالخيل، وأن يعامل هذا الحيوان كمعاملتك لإنسان يشعر ويحس ويتألم، فالخيول فى الصعيد لها خصوصية معينة فالناس تعاملها كجواهر ثمينة  بل ان قواعد معاملتها لها شروط وحدود أى كما يقول فوارس الصعيد لها فرائض وواجبات، أما إذا كنت تسير فى شوارع الصعيد ورأيت رسوم الخيول فعليك أن تمتلك عدة معلومات عن لعبة “الصابية” التى يتقنها الفوارس، بينما  يؤكد مدربو الخيل أن الخيول لاتدري أنها ترقص وأنها لوعلمت أنها ترقص لماتت من الغيظ، مؤكدين أن الخيل ترفع أرجلها وتحرك رأسها ظنا منها أنها تدخل غمار الجهاد في سبيل الله، والرسام قد يرسمها راقصة مزهوة بفرحها على الجدران.

ويضيف العم عيد أنه رسم حتى الآن أكثر من 2000 رسمة للخيول الأحياء منها والأموات ممن دخلت غمار السباقات للفوارس، فهناك من يريد أن يحتفي بذكرى حصانه الميت فيخلد ذكراه وهناك من يريد أن يخلد مجهودات حصانه الذي فاز بكأس المرماح على جدران المنازل ويحتفي به، ويوضح أنه قام في سنة ١٩٦٧م برسم أول حصان، وكان لحصان علي أبو محمود وكان لونه أحمر، وكان الخيل وصاحبه من أهالي المنصورية، وكان حصان المحافظتين ساعتها قنا وأسوان، فيما قام في ثمانينيات القرن الماضي حين مات حصان الحاج موسي في سباق الخيول وأخذ كأس محافظة أسوان أكثر من مرة ، قام العم عيد  برسمه تخليدا لذكراه الخالدة المحفورة في أذهان الناس.

ويقول العم عيد:”قمت برسم الحصان بعد وفاته في سباق الخيول أثناء موسم الحج”، لافتًا إلى أنه يقوم بحفظ الأماكن ويقوم بتسجيلها وغالبية البلدان يطلبون منه رسم الخيل قبل الكعبة، لكنه يرفض متعللًا بضرورة رسم المناسك أولًا قبل الخيول.

فى الصعيد ينقسم فوارس الخيل إلى قسمين  كما يؤكد الفارس النوبى الذي يدخل سباقات الخيول فى الصعيد فى تصريحات لبوابة الأهرام ، حيث ينقسم إلى خيل سعد أى خيل سعيد يجلب السعادة والبركة لمن يقتنيه، وإلى خيل نحس يجلب التعاسة لمن يقتنيه ،وهذان القسمان لهما أوصاف في أشكال الحصان، فالخيل السعيد له قواعد يعرف منها عند شرائه وهى أربعة شروط يحددها الفارس حين شرائه منها، أن يقوم الفارس بفحص اللسان وإذا وجد تحته  بلحة حمراء تحت لسان الخيل يكون الخيل سعيدا بعدها يتم فحص الأرجل، فالخيل السعيد تكون أرجلها الثلاثة محجلة البياض أما القدم اليمنى تكون حمراء وسادة كالجسم، أما الشرط الثالث فيحدده الفارس النوبى بأنه يتم  فحص الصدر فإذا وجد في الصدر نخلة الشريحة وهى مجموعة من الشعر تكون على هيئة النخلة يكون الخيل سعيدا ، أما الشرط الرابع فهو فحص الجبهة فإذا وجد الفارس غرة بيضاء تسمى السيالة وهى تبدأ من نصف الجبهة وتنتهي بشفة الفم السفلى يكون الخيل سعيدا ،أما الخيل النحس فيكون بخلاف ذلك أى أن يكون تحت لسانه بلحة سوداء ودائما يوجد في الخيل الأسود، مؤكدا أن الغالب فى الخيول السعادة فهى معقود بنواصيها الخير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى