تعرّف على تاريخ زراعة التبغ في مصر

حين وصل كريستوفر كولمبوس أرض الأمريكيتين في نهاية القرن الخامس عشر، رحب به السكان الأصليون، وأهدوه أوراق التبغ المجفف، وعاد لأوروبا حاملًا إكتشاف بلاد تفيض بالخيرات، ونبات التبغ، وكان الأخير يُستخدم في بلاده الأصلية في الممارسات الدينية والطبية، ومثلما فُتنت أوروبا باستعمار الأمريكيتين فُتنت أيضًا بنبات التبغ، واعتقدوا أنه نبات سحري يمكنه أن يعالج أي شيء، إنتشر التبغ في أوروبا بسرعة إنتشار المال، وفي نهاية القرن السادس عشر كان التبغ يُدخن بعد أن كان يمضغ.
وصل التبغ إلى الخلافة العثمانية في أوائل القرن السابع عشر ومنها إلى مصر والتي كانت وقتها تتبع الخلافة العثمانية، وقوبل التدخين في مصر بالرفض المجتمعي، ومعارضة الموضة الجديدة، إلا أن هذا لم يمنع انتشارها تدريجيًا، وبدأ تدخين التبغ في مصر عبر البايب عام 1612م تقريبًا، وكان «البايب» هو الشائع وقتها ولم تكن السجائر قد ظهرت بعد، وتزامن في هذا القرن ظهور الشيشة و«التومباك»، وبين الحكم الديني للتدخين تحليلًا تارة وتحريمًا تارة أخرى كان المصريون يقبلون على التدخين بشراهة حتى صار واقعًا لا مفر منه.
زراعة التبغ
بدأت زراعة التبغ في مصر في أواخر القرن السابع عشر، وأنشئت وكالات التبغ التي تستورد التبغ بجانب التبغ البلدي أو المحلي، وبحلول القرن الثامن عشر كان التبغ ومستلزمات التدخين جزء من إقتصاد الخلافة العثمانية في مصر والأقاليم الأخرى، لذا فرضت الخلافة العثمانية الضرائب على التبغ وتعاملت معه باعتباره سلعة غير أخلاقية ولكنها فاخرة كالكحول.
وبحلول منتصف القرن الثامن عشر إنتشر التدخين في ربوع مصر، وكتب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» عن إنتشار الدخان قائلًا: «تولى محمد باشا اليدكشي وحضر إلى مصر وطلع إلى القلعة، وفي أيامه كتب فرمان بإبطال شرب الدخان في الشوارع وعلى الدكاكين وأبواب البيوت، ونزل الأغا والوالي فنادوا بذلك وشددوا في الإنكار والنكال بمن يفعل ذلك من عال أو دون، وصار الأغا يشق البلد في التبديل كل يوم ثلاث مرات، وكل من رأى في يده آلة الدخان عاقبه، وربما أطعمة الحجر الذي يوضع فيه الدخان بالنار، وكذلك الوالي».
إقتصاد التدخين
السيجارة كانت أحدث صيحات إستهلاك التبغ، الإسبان هم أول من لفوا سيجارة من التبغ، وكان ذلك في القرن السابع عشر، لكن لم تلق رواجًا عالميًا حتى فعلها الفرنسيون في أربعينيات القرن التاسع عشر، فانتشرت السجائر في أوروبا ومن ثم إلى الخلافة العثمانية ومنها إلى مصر.
ووفقًا لكتاب الباحث ريلي شيكتر «إقتصاد وثقافة التدخين في الشرق الأوسط، سوق التبغ المصري 1850-2000» والصادر في عام 2006م فإن أول سيجارة مصرية صنعها جندي مصري في عام 1832م أثناء الحرب المصرية العثمانية، وتحديدًا في حصار عكا، حين كسرت الشيشة الخاصة بمجموعة من الجنود المصريين، فما كان من أحد الجنود إلا أن استخدم الورق والذي كان يستخدم في إشعال المدافع وصنع بها سيجارة، وبغض النظر عن مصداقية هذه الرواية، فالجنود والحروب حول العالم ساهموا بشكل كبير في إنتشار إستهلاك السجائر نظرًا لسهولة حملها، وتدخينها في أي وقت.
وشقّت السجائر طريقها بين مختلف طبقات الشعب المصري وشرائحه، ولم تحتكر طبقة شرب السجائر، بل إنتشرت بين الرجال سريعًا، أما النساء فعرفت السجائر طريقها إلى نساء الطبقة الحاكمة أولًا ومنها إلى نساء الطبقات العليا، فكانت حرم الملك الخديوي إسماعيل لديهم خمسة خدام يتخصصون في صناعة السجائر، الأول يُعد التبغ، والثاني يجهز الورق، والثالث يلف السيجارة، والرابع يمرر السيجارة، والخامس يشعلها للأميرة.
ظلت السجائر مدة في مصر تباع مجزئة: تبغ وورق، وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأت هناك حركة جديدة في طلب السجائر جاهزة، لذا بدأت ورش صغيرة في تصنيع السجائر يدويًا، وحسب الطلب، أي أن العملاء يطلبون من الورش صنع كمية محددة من السجائر وبالتالي تنتجها الورشة لهم، واستخدمت الورش عمالًا يقتصر دورهم على لف السجائر، بعدها ظهرت شركات يونانية تصنع سجائر حسب الطلب، وتوسعت الشركات في وقت قصير بعد ذلك إلى إنتاج السجائر وبيعها جاهزة دون الحاجة إلى الطلب، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان لدى مصر المقومات الأساسية لصناعة السجائر المحلية.
السجائر المصرية
مع تطور صناعة السجائر في العالم وظهور آلات اللف، سارعت الشركات في جلب تلك الماكينات واستخدامها، وبهذه الماكينات تمكن العمال من إنتاج ما يقرب من 3 الآف سيجارة في سبع ساعات عمل، وهذا ضعف عدد السجائر التي تصنع يدويًا، وكانت الشركات تعتمد على علب معدة خصيصًا من خارج مصانعهم، لكنهم سرعان ما اعتمدوا التغليف داخل شركاتهم ليحافظوا على نوعية سجائرهم وتوحيد المعايير سواء في الحجم أو الوزن أو الذوق، وبعد إعتماد التعبئة والتغليف داخل الشركات، جاءت المرحلة الأخير بوضع علامات تجارية خاصة، وبحلول العقد الأول من القرن العشرين كانت السجائر المصرية لها مكانتها المحلية واسمها التجاري والنكهة المميزة لكل نوع.
سيجارة مصرية
مع مطلع القرن العشرين كانت شركات السجائر المصرية قد إنتشرت في جميع أنحاء مصر، وبدأت في تصدير السجائر لأوروبا، واعتمدت الشركات على الرموز المصرية الفرعونية علاماتٍ تجارية أو رسوماتٍ مثل الأهرامات وأبو الهول والمعابد والمسلات، بالإضافة إلى المشاهد المصرية المعروفة: كالنيل والأشجار والمراكب الشراعية، وساعدت تلك العوامل المستهلكين في أوروبا لشراء السجائر المصرية التي صُور لهم أنها تأخذهم في رحلة إلى مصر الفرعونية، بل إن الكاتبة الأمريكية كيت شوبان كتبت قصة قصيرة بعنوان «سيجارة مصرية» تؤكد على الصورة الذهنية للسجائر التي تأخذك بعيدًا عن عالمك حيث الماضي.
كما أن هناك عوامل كثيرة ساهمت في إنتشار السجائر المصرية في أوروبا، مثل: ترويج المصدرين للسجائر عبر الموزعين والوكلاء المحليين في أوروبا، وتقديم الشركات المصرية سجائرهم للنوادي الاجتماعية في العالم، وعودة السياح في مصر بالسجائر إلى ديارهم، وسمعة القطن المصري الذي أعطى ثقة لأي منتج مصري، وعوامل أخرى أيضا لعبت الدور نفسه، وفي النهاية أقرت الحكومة المصرية عام 1903م بأن السجائر من السلع المصدرة للخارج، وأنشأت قسمًا خاصًّا بها في التقارير السنوية للتجارة الخارجية.
ومن عام 1903م وحتى 1914م كانت ألمانيا هي أكثر الدول الأوروبية استيرادًا للسجائر المصرية، تلتها بريطانيا وبالأخص أن الجنود الإنجليز أحبوا السجائر المصرية ونقلوها لبلادهم، أما الهند فكانت ثالث دولة مستوردة للسجائر المصرية، ووفقًا لكتاب «إقتصاد وثقافة التدخين في الشرق الأوسط» فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مستوردًا كبيرًا للسجائر، لكن السجائر المصرية أوجدت سوقها هناك، إلى درجة أن الصادرات لم تسد الحاجة في السوق الأمريكي فأنشأ مصانع سجائر هناك وكتب عليها شعار «كأنك في القاهرة تمامًا» وكان نيستور جناكليس أول مصنع مصري يُصدر سجائره المصرية إلى أمريكا، ونظرًا للطلب المتزايد فقد فتح مصنعًا في مدينة بوسطن الأمريكية، وبعدها نقل مؤسسته إلى نيويورك مع مصانع أخرى للسيجارة المصرية، والتي حملت علامة تجارية «المصري الأصلي».
النظارة الذهبية
وصلت شهرة السجائر المصرية إلى المحقق شيرلوك هولمز، الشخصية الخيالية الأشهر للكاتب الأسكتلندي آرثر كونان دويل، ففي قصته «النظارة الذهبية» كان الأستاذ العجوز يدخن سجائر مصرية، ومنح لشيرلوك هولمز والذي كان يدخن «البايب» سجائره المصرية، وأقبل شيرلوك هولمز على تدخينها بشراهة، قال الرجل لشيرلوك هولمز: «إنها سجائر خاصة جدًا، إنها ترسل إلي من مصر».
في أوائل عام 1920م ظهرت الماكينات الحديثة آلية الصنع، ومع اشتداد المنافسة بين الشركات المصرية في صنع السجائر المصرية وتصديرها، أُنشئت «الشركة الشرقية للدخان»، وكان الهدف منها الاستحواذ على السوق عبر ضم الشركات الأخرى لها، وتمكنت من ضم تسع شركات تحت لوائها، واستطاعت الشركة بعد الدمج بالسيطرة على 90% من سوق السجائر المصرية، ووفقًا لكتاب «اقتصاد وثقافة التدخين في الشرق الأوسط» حلت مصر الدولة الرابعة عالميًا في تقديم أفضل السجائر بعد الصين والهند، مقارنة بالسعر والجودة، وفي الحرب العالمية الثانية زادت مبيعات الشركة إلى الضعف واستمر بعد الحرب، وظلت الشركة حتى عام 1956م تنعم بتضاعف الأرباح الصافية.
كما قرر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأميم الشركات ومن بينهم «الشركة الشرقية للدخان»، أدى إلى تغير كامل في إدارة الشركة من شركة متعددة الجنسيات إلى شركة مصرية خالصة، وإدارة مصرية، وفي 1957م صُدرت الأسهم البريطانية والفرنسية في الشركة، وبعد هذه القرارات خسرت الشركة الكثير من أرباحها التي كانت تدار عليها من التصدير لأوروبا، وشيء فشيء اعتمدت الشركة على الاستهلاك المحلي.
والآن «شركة الشرقية للدخان» هي الشركة الأكبر لصناعة السجائر والمعسل في مصر، لديها العديد من المنتجات سواء في المعسل مثل معسل «سلوم»، أو السجائر وأشهرها سجائر «كليوباترا»، والسيجار وأشهره «فيرونا»، وتقدم الشركة أيضًا تبغًا خاصًّا «للبايب»، ولا تزال تحتفظ بالحصة الأكبر من السوق المحلي على مستوى الاستهلاك والبيع.