أماني فهمي تكتب: أوجاع المقابر

كما يعاني الناس من الإهمال والجور والمرض وخلافه يُعاني الحجر والأثر والمُقتنيات الثمينة في مصر وعلى مر العصور نفس الإهمال والجور والمرض، إما بسبب الجهل أو اللامبالاة والإهمال المُتعمد أو غير المُتعمد، فكم من البرديات المهمة التي كان من المكن أن تكون مفتاحًا هامًا لفك الشفرات للحضارة والديانة المصرية القديمة لكنها ضاعت عبثًا لجهل من وجدوها فمنهم من باعها بمبالغ زهيدة مُقدمًا للمشتري الأجنبي ثروات طائلة مقابل شراء البائع بعض السماد للأرض أو ربما طعام يوم أو يومين، ومنهم من استخدمها بديلًا للحطب والقش لإشعال النيران لغلي الشاي أو صنع الطعام أو لظنهم أنها قد تكون كتابات سيئة الأثر على من يقتنيها كما هو الحال في برديات نجع حمادي المُكتشفة عام 1945.
لكن من الصعب أن نلوم على الفلاحة التي أحرقت بعضًا من برديات نجع حمادي الأثرية منذ ما يزيد عن ثمانين عامًا، ثم استمتعت بمنهى حُسن النية بكوب الشاي وطبق البيض أو حلة المحشي، فقد كان هذا هو مُنتهى علمها وأقصى أحلامها، وعاشت وماتت دون أن تُدرك فداحة ما قد ارتكبته، لكن كيف لا نلوم على من يسمح بتكرار نفس التجربة يوميًا فكما اختفت الكتابات مع احتراق البرديات الثمينة تُمحى كل يوم النقوش التي تُمثل الحياة اليومية للمصري القديم، تحت نظر وسمع الجميع ورغم علو الأصوات المُطالبة بحماية نقوش مصاطب سقارة.
تشتعل وسائل الإعلام ويُهلل الأثريون مع كل اكتشاف جديد لمقابر في سقارة، تلك المقابر التي حافظت العواصف الرملية عليها من الاندثار لقرون عديدة حيث قامت الرمال بدور الجندي المجهول لتحافظ لنا على أجمل نقوش تُمثل الحياة اليومية للمصريين في مصر القديمة، يُمكن القول أن الرمال كانت أكثر اهتمامًا وحنانًا على الآثار من المسئولين عن حمايتها اليوم، على جدران مصاطب سقارة يُوجد مناظر لا تختلف كثيرًا عن ما تُقدمه ناشيونال جيوجرافيك حاليًا على الشاشة، فهناك مناظر قطعان البقر وهي تستحم بالنهر بينما يربط الراعي العجل الصغير بالقارب لحمايته فهو لصغر سنه لم يكتسب الخبرة الكافية وربما ما زال لا يعرف أعداءه في الطبيعة كالتماسيح على سبيل المثال والتي نراها في مشاهد أخرى تتصارع مع فرس النهر، وهناك نقوش تُمثل الطيور التي ترقد على البيض، أوالطائران اللذان يحاولان بكل ما أُوتيا من قوة أن يحميا صغارهما في العش، فينجحان مرة ويفشلان أخرى، ومناظر ولادة فرس النهر أمام أعين التمساح الذي يُمني نفسه بوجبة شهية.
يا للمفارقة قد يكون اليوم الأول في حياة فرس النهر الوليد هو نفسه اليوم الأخير في حياته!! ومناظر الجماع في عالم البقر ثم ولادة عجل صغير ورضاعته، وبدء حلب البقرة الأم للحصول على الطعام للعائلة، ومناظر تُمثل مختلف الصناعات والرياضات ودفع الضرائب وتقديم القرابين، والألعاب وصيد الأسماك بمُختلف وسائل الصيد الخ، ومشاهد الطب البيطري والطب التقليدي كختان البنين، هناك الفراشات والجراد والقنفذ والأسد الذي يهجم على البقرة لتتبول من الرُعب وغيرها من المناظر النادرة التي يعود تاريخها لأكثر من 4000 سنه، هذا غير هرم أوناس الذي يُفتتح للزوار حتى الثانية عشر ظهرًا والذي يمتلك داخله أجمل نصوص وكتابات دينية قديمة (نصوص الأهرام) ، كل هذه الكنوز مُتاحة للزوار لكنها للأسف لا تجد من يحميها من عبث الزوار المُتعمد وغير المُتعمد.
المنطقة لها تذكرة مُحددة بسعر 600 جنيه للأجنبي تشمل الدخول من بوابة تؤدي لفناء الحب سد والذي يشمل مُشاهدة الهرم المُدرج الخاص بالملك زوسر من الخارج حيث أن الدخول له تذكرة إضافية بسعر زهيد، وتشمل التذكرة دخول بعض المقابر مثل مقبرة إيدوت ومقبرة كاجمني وهما اللذان يستحوذان على العدد الأكبر من الزوار مما يُشكل تهديدًا حقيقيًا لهما وهنالك أيضًا مقبرتي نكاو أسسي وعنخ ماحور بنفس التذكرة، ويتجه لهما عدد قليل من الزوار والمرشدين، وخلف هرم سقارة تُوجد منطقة حجرة السرداب لمًشاهدة تمثال الملك زوسر المُقلد فالأصلي موجود بالمتحف، وتشمل التذكرة كذلك دخول مكان صغير للغاية يُطلق عليه بيت الجنوب تكمن أهميته في أنه يحتوي على أقدم كتابات جرافيتي في العالم فقد زار أحد المصريين القدماء المكان وكتب على جدرانه انطباعاته التي تعني أنه يشعر بالأسى وهو يرى المباني العظيمة والفن الجميل حوله ويقارنه بالعصر الذي يعيش فيه حيث يصفه أنه عصر اضمحلال الفن والمعمار بينما هو يقف بلا حيلة شاهدًا على عظمة أجداده الذين بنوا المجمع الجنائزي بسقارة الكثير من المباني الجميلة والعريقة، ويصف حسرته وحزنه لأن الفنون تدهورت في عصره ولم تتقدم.
وبعد عدة قرون جاء زائر مصري قديم آخر لنفس المكان ليقرأ الجرافيتي الأول ويترك رده الساخر من طريقة كتابة الزائر الأول ومن بشاعة خطه الذي يُعتبر دليلًا دامغًا على أنه قادم من أحد عصور الاضمحلال في الفن والمعمار، يقف هذا الجرافيتي دليلًا على خفة ظل المصري القديم وحبه للدُعابة، ومن محاسن القائمين على الآثار بالمنطقة أنه تم وضع حاجز شفاف ليحمي الجرافيتي من المُتطفلين، لكن لم يحدث الأمر نفسه مع أي من المصاطب (مقابر علية القوم في مصر القديمة) الموجودة بمنطقة سقارة، حيث يتزاحم السياح بشكل كبير لا سيما في المواسم السياحية على دخول المقابر وهو ما يُشكل إهانة وتدمير للأثر حيث أن المقابر تُوجد بها حجرات صغيرة للغاية كما في (إيدوت)، فلا يُوجد أي تحجيم لعدد الزوار فمن المُمكن دخول مجموعة من عشر أفراد يليها مجموعة أُخرى من عشرين فرد ليزدحم المكان بشكل مُبالغ فيه، ورغمُا عن الزائرين سيحتكون بالجدران.
ومع مرور الوقت تزول الألوان والنقوش، حتى مع طلبات بعض المرشدين من الزوار مراعاة عدم الاحتكاك يشبه الأمر أن تُلقي بحجر في الهواء ثم تطلب منه أن لا يسقط، هذا عدا كارثة حقائب الظهر التي تحتك بالأثر وعدا الزوار الغاضبين فعليًا من حضارة تسبق حضارتهم ولا مانع لديهم من التخريب المُتعمد، وعدا الطلاب الحبيبة فبعضهم يكشط اسمه واسم حبيبته على بطن وساق وعنق صاحب المقبرة.
لن اتحدث عن الدق والرزع والخبط لبناء مسارح مؤقتة لعمل حفلات و أفراح فصوتي لن يكن مسموعًا إذا ما قورن صوت الحق بملايين الجنيهات ستكسب الملايين ويبقى الحق عاريًا يبحث عن من يستره لكنني سأتوسل باسم إيمحتب أول مهندس معروف في العالم، هذا الذي هز عرش الأساليب القديمة للبناء مُتفضلًا على العالم بأسلوب بناء معماري جديد فبنى مجموعة زوسر الجنائزية من الحجر لتكون أول بناء حجري كبير كامل مُتكامل في العالم، ربما لو لم يفعل إيمحتب هذا لما تمكن البشر اليوم من بناء البيوت والمدن اليوم، ولما امتلكت مصر أي آهرامها أو آثارها العظيمة، وضع إيمحتب خططه ونظم عماله وأمرهم بالبناء وفق منهجه المعماري الجديد في سقارة، فبنوا الأعمدة الحجرية والجدران والسقف والهرم الأول في العالم، مباني خالدة مازالت تحقق دخلًا عاليًا للوطن وبكل العملات الصعبة، هل تتخيل أيها القاريء أن جدك منذ حوالي 4700 عام بنى المبنى الخالد الذي ما زالت الدولة والمواطنين يجنون فوائده وأرباحه، هل الحل أن نحافظ عليه أم نحطمه مقابل بعض الملاين من حفل وعرس؟!.
للأسف هاهم عمال آخرون اليوم يأتمرون بأوامر المقاول أو مهندس الصوت أو الإضاءة يدقون بين الأعمدة التي تقارب الخمس آلاف عام من العمر لتثبيت سماعات الصوت وكشافات الإضاءة، يدقون الخشب لبناء مسارح مؤقتة ثم يهدمونها ثم يبنون أخرى ثم يهدمونها الخ، حقًا هذه الأعمدة مُرممة لكن هل نرمم الآثار لنهدمها بفعل فاعل ونعيد ترميمها ثانية؟! شتان بينهم وبين مهندس خلد اسمه على مر القرون! هل نعود لعصور الاضمحلال في الفن والعمارة على مرأى ومسمع إيمحتب!.
لنترك إيمحتب يكمل نومه هادئًا فأخشى ما أخشاه أن يستيقظ باحثًا عن آلة الزمن ليُقنع زوسر أن عليهما أن يبنيا المجموعة الجنائزية في بلد آخر إن أرادا لها استمرار الخلود أو أرادا لنومتهما أن تكون أكثر هدوءًا دون صخب احتفالات الزواج في المقابر.
النقطة الرئيسية التي أكتب هذا المقال من أجلها ليست قلق منام زوسر ولا لطميات إيمحتب على ما يحدث ن تهديدات للمباني الحجرية ، لكنها الكنز الذي عاش قرونًا تحت الرمال حتى اكتشفناه، إنها النقوش التي ستندثر من الحك واللمس واللعق الخ، ولا أعرف لماذا الجميع أذن من طين وأخرى من عجين!! أسوة بمقابر وادي الملوك لمذا لا يتم منع دخول المرشدين مع مجموعاتهم وهو ما يمنع تكدس المجموعه كلها في حجرة ضيقة حول المرشد! لماذا لا يتم تحديدد عدد الزوار الذين يتواجدون بنفس المقبرة في ذات اللحظة، أدرك أن هذا قد يتسبب في تكدس أمام المقابر لكنه سيحمي النقوش، لماذا لا يتم تحجيم الدخول إلى إيدوت وكاجمنيأ وداخل هرم أوناس بعمل تذاكر إضافية وكما يقول المثل الغاوي ينقط بطاقيته وهو ما سيسبب تخفيف الزحام والاحتكاك القاسي بالجدران، ومن هنا أتساءل لماذا لا يتم عمل تذاكر إضافية لكل المقابر على حد سواء؟ المنطقة تستحق ماهو أفضل من 12 دولار.
لماذا لا يتم وضع حواجز شفافة لحماية النقوش من أحمد الذي يحب آلاء ومن هيثم أبو هندى، ومن بعض الأفروسنتريك الذي قد يتلذذوا بالتحطيم؟ لكم أن تتخيلوا سائحة في مجموعة طلب منهم المرشد السياحي عدم التقاط صور بالفلاش وعدم لمس النقوش وبعد أقل من دقيقة واحدة حكت السائحة بإصبعها اللون الأحمر وصاحت ضاحكة: إنه حقًا أحمر! إنه أحمر! وسط ذهول المرشد الذي صاح باستياء هل تستخدمين حاسة النظر أم حاسة اللمس للتعرف على الألوان؟! وكررها ثانية أرجوكم عدم اللمس، عليه أن يقوم بالشرح ويتقدم المجموعة التي تتبعه ثم يلتفت خلفه ليتأكد من اتباع الجميع القواعد، يُراقب العجائز والمُرهقون من حرارة الجو سواء الذين يزورون المكان مع مرشد آخر أو بمفردهم يستندون للجدران وتعلو التنبيهات أحيانًا نرجو عدم اللمس ليصيح السائح : أنا لا ألمس, ها هما يداي لا أضعهما على أي جدار فيصيح المرشد لكن ظهرك مستند تماماً على الحائط فيعتذر السائح ولا يُكررها أبدًا لكن بعد خراب مالطا وماذا ينفع البكاء على اللبن المسكوب؟ فكل استناد على الحائط وكل لمسة تُساهم في مسح الألوان والنقوش التي صمدت عشرات القرون أمام الزمن.
ليست من وظائف المُرشد السياحي أن يتحول إلى أنوبيس ويُصبح حارس الجبانة، لكن الأغلبية قدر استطاعتها تحاول فعل هذا، بلا شك شأن كل مهنة هناك قلة لا تهتم ولا تُبالي وربما لا تُنبه السائح لما يجب عليه فعله حفاظًا على نقوش المقابر شأنها في ذلك شأن من يدقون الدفوف ويستخدمون الآلات الموسيقية ذات الذبذبات العالية، ويبنون المسارح أمام أبو الهول وبالقرب من الهرم المدرج فهم ينظرون لاستفادتهم الشخصية الحالية لا لاستفادة الوطن على المدى البعيد ولا لاستفادة الجميع فمنطقهم أنا ومن بعدي الطوفان واستحي أن أقول إذا كان رب البيت بالدف ضارب فكل أهل البيت شيمته الرقص وأخشى أن نعتاد أخبار مُتتالية عن تحطيم جزء من جدار مقبرة ثم كحت بآلة حادة على جدار مقبرة أخرى لتخليد اسم عديم الذكر (هيثم أبو هندى) على الجدران في سقارة، وأحمد يحب آلاء على قدم ملك من ملوك المتحف المصري مع تدوين التاريخ والعام 2025كما لو أن الملوك تُشير لنا أنه عام العار على الآثار المصرية ، ومن هنا فالاعتماد فقط على تنبيهات المرشد لا تكفي، نتمنى وضع حواجز شفافة في سقارة وزيادة عدد مفتشي الآثار و الحراس بالمقابر، والانتباه إلى أن نفس الحارس لا يُمكنه التواجد في جميع حجرات المقبرة في نفس اللحظة فهو ليس سوبرمان، لهذا فالحواجز مهمة جدًا وتركيب كاميرات يعني امتلاك عدة عيون في عدة أماكن في نفس الوقت، مع مُراعاة إعطاء الحراس رواتب جيدة حتى لا يُهمل الحارس المقبرة وينتظر إرضاء السياح مقابل الإكراميات، كما ستُساعد الكاميرات في معرفة من الجاني وملاحقته مع وجود دليل، فيكون عبرة لمن تُسول له نفسه العبث بالمنطقة، نتمنى أن تنتبه الدولة إلى القيمة الأثرية للمنطقة فيتم فرض رسوم إضافية للمقابر المفتوحة مجانًا فهي لا تستحق هذه المجانية التي تجعلها مُتاحة ضمن تذكرة المنطقة للآلاف الذين يُحملونها فوق طاقتها بدخولهم إليها بالعشرات، نتمنى كثيرًا تحجيم العدد بكل الطرق المُمكنة فالحجارة أيضًا لها أوجاع ومن حقها أن تتنفس.