[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

دكتورة ميرنا القاضي تكتب: مصر في عيون المستشرقين

لطالما كانت مصر ساحة مفتوحة للرحالة والمستشرقين، كلٌّ منهم ينظر إليها بعدسته الخاصة، مدفوعًا إما بولهٍ لا ينضب تجاه عراقتها، أو بانحياز فكري يجتزئ من عظمتها ما يخدم رؤيته الخاصة. وبين المستشرق العربي والغربي، نجد فروقًا جوهرية في الزوايا التي يختارون تسليط الضوء عليها، والفخاخ التي يقع فيها كلٌّ منهم.

المستشرق الغربي: بين السحر والاستعلاء

حينما وطأت أقدام المستشرقين الغربيين أرض مصر، كانت أعينهم تتأرجح بين الدهشة وبين رغبة لا واعية في إخضاع هذا التاريخ العظيم إلى معاييرهم الفكرية. فالبعض رأى فيها أرض السحر والغموض، حيث المعابد الضخمة والأهرامات الشامخة والأسرار الدفينة، متناسيًا – بوعي أو بدونه – أن مصر لم تكن فقط حضارة حجرية، بل حضارة فكرية وعلمية امتدت جذورها في الفلك والطب والفلسفة والسياسة.

أما البعض الآخر، فقد اتخذ من الحضارة المصرية دليلًا على أطروحات مركزية أوروبية، فحاول نسب إنجازاتها إلى أصول غير مصرية، أو تصويرها كحضارة توقفت عند عصر معين، وكأنها لم تعرف التطور عبر القرون. هؤلاء وقعوا في فخ “التشييء”، حيث تعاملوا مع مصر كمجرد متحف مفتوح، لا ككيان حي متفاعل مع التاريخ.

أشهر المستشرقين الغربيين الذين كتبوا عن مصر:

1. إدوارد ويليام لين (1801-1876) – مستشرق بريطاني، كتب “وصف مصر”, حيث وثّق العادات والتقاليد المصرية في القرن التاسع عشر.

2. ريتشارد ليبسيوس (1810-1884) – عالم مصريات ألماني، أسهم في تصنيف وتأريخ الحضارة المصرية القديمة.

3. أوغست مارييت (1821-1881) – عالم آثار فرنسي، أسس مصلحة الآثار المصرية وساعد في إنشاء المتحف المصري.

4. جيمس هنري برستد (1865-1935) – مؤرخ أمريكي، كتب “فجر الضمير” و”تاريخ مصر القديمة”, وكان من أوائل من درس مصر كجزء من تطور الحضارات الإنسانية.

5. جورج ريزنر (1867-1942) – عالم آثار أمريكي، أجرى حفريات هامة في الجيزة والنوبة، وساعد في فهم العمارة المصرية القديمة.

6. جاستون ماسبيرو (1846-1916) – مؤرخ فرنسي، تولى إدارة مصلحة الآثار المصرية، وأسهم في نشر النصوص المصرية القديمة.

7. سير آلان غاردينر (1879-1963) – عالم مصريات بريطاني، ألّف “النحو المصري”, وهو من أهم المراجع في دراسة اللغة الهيروغليفية.

8. توبى ويلكنسون – مؤرخ بريطاني معاصر، كتب “صعود وسقوط مصر الفرعونية”, وهو تحليل شامل للتاريخ المصري القديم.

 

هؤلاء المؤرخون والمستشرقون أسهموا في تشكيل معرفتنا بمصر، لكن كتاباتهم تحمل أحيانًا تحيزات استعمارية أو أوروبية، ما يجعل قراءتها بحاجة إلى نقد وتحليل موضوعي.

المستشرق العربي: بين النوستالجيا والانتقائية

أما المستشرق العربي، فكان نظره إلى مصر أكثر حنينًا وألفة، لكنه لم يسلم من الانتقائية ذاتها. فالبعض ركّز فقط على مصر الإسلامية، وكأنها لم تكن قبل ذلك سوى صحراء خاوية، متجاهلًا إرثها القبطي والفرعوني الذي تسرب في تفاصيل ثقافتها. بينما آخرون انبهروا بالمصري القديم، فراحوا يصفونه بحضارة سحرية صوفية، تختزل في الفراعنة قوى ماورائية، متناسين أنها أيضًا حضارة إدارة وحكم وقوانين مدنية معقدة.

هذا الطرح الاختزالي يبرز أيضًا عند بعض المفكرين العرب الذين يهتمون بجانب واحد من التراث المصري فقط – كالأدب الشعبي، أو الحرف التقليدية، أو حتى الحقبة الناصرية – دون إدراك أن قوة مصر تكمن في تنوعها وتعاقب الحضارات عليها.

أشهر المؤرخين العرب الذين كتبوا عن مصر:

1. المقريزي (1364-1442) – من أهم مؤرخي مصر، ركز على تاريخ القاهرة في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”.

2. ابن إياس (1448-1524) – مؤرخ مصري كتب “بدائع الزهور في وقائع الدهور”, حيث وثّق نهاية المماليك وبداية الحكم العثماني.

3. عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825) – أبرز من أرّخ للحملة الفرنسية في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”.

4. السيوطي (1445-1505) – عالم ومؤرخ مصري كتب عن تاريخ مصر الإسلامي في عدة مؤلفات، منها “حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة”.

5. ابن تغري بردي (1410-1470) – مؤرخ مصري من أصل مملوكي، كتب “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”.

6. القلقشندي (1355-1418) – كتب عن مصر في سياق إداري وديواني في مؤلفه “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”.

7. ابن خلدون (1332-1406) – رغم أنه لم يكن مصريًا، إلا أنه عاش في مصر وكتب عنها في مقدمته الشهيرة.

8. رفاعة الطهطاوي (1801-1873): الذي حاول المزج بين الحضارة المصرية القديمة والحداثة، وكتب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.

9. سليم حسن (1893-1961): عالم المصريات المصري الذي قدّم موسوعة ضخمة عن مصر القديمة، وكان أول من درس تاريخها بعيون مصرية حديثة بعيدًا عن النظرة الاستعمارية.

 

الاستشراق وتأثيره على الهوية المصرية

لم يكن تأثير الاستشراق مجرد تراكم معرفي، بل امتد ليؤثر في تصور المصريين لأنفسهم. فقد أسهمت الكتابات الغربية في إعادة اكتشاف المصريين لتراثهم، لكنها في الوقت ذاته زرعت في الأذهان صورًا مشوهة عن مصر كأرض سحرية راكدة، أو كدولة لم تتطور منذ العصور القديمة. كما أن بعض المصريين تبنوا نظرات المستشرقين دون تمحيص، ما أدى إلى استبطان بعض الأفكار الاستعمارية.

في المقابل، تصدى بعض المفكرين المصريين لهذا التأثير من خلال إعادة قراءة تاريخهم برؤية نقدية، مثل سليم حسن الذي كتب عن مصر القديمة بعيدًا عن الطرح الاستشراقي، وطه حسين الذي ربط الحضارة المصرية الحديثة بجذورها الفرعونية.

الانتقائية: فخ غير المتخصصين

الانتقائية في تناول الحضارة المصرية ليست حكرًا على المستشرقين، بل تسللت حتى إلى غير المتخصصين في يومنا هذا. فالبعض يراها فقط في الأهرامات والكرنك، وكأنها مجرد حضارة حجارة، بينما يهمل ما قدمته في علوم الفلك والرياضيات. وآخرون يختصرونها في الحكايات الشعبية والأساطير، وكأنها لم تكن حضارة تشريعية وقانونية. هناك من يهيم عشقًا بمصر الإسلامية، دون أن يلتفت إلى أن الفاطميين والمماليك والعثمانيين تركوا بصماتهم أيضًا.

هذا الفهم المجتزأ يُفقدنا رؤية الصورة الكاملة، ويحوّل الحضارة المصرية إلى مجرد لوحة جميلة في متحف، لا إلى تاريخ حي مستمر. فالحضارة ليست مشهدًا يُلتقط بعدسة الكاميرا، بل منظومة فكرية متكاملة يجب الغوص في أعماقها.

*مصر: أعمق من أن تُختزل

الحضارة المصرية لا تُقرأ بمنطق “أعجبني هذا الجزء، فسأتجاهل الباقي”. إنها نهر متدفق من الفكرة والمعمار والعقيدة والإبداع الفني والسياسي. من يريد أن يفهمها بحق، عليه أن يتجاوز سحر السطح إلى عمق الجوهر، وأن يراها لا كأحجار صامتة، بل كحكاية مستمرة ترويها الأجيال المتعاقبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى