كتّاب وآراء

٢٢٣ سنه علي اكتشاف حجر رشيد

حجر رشيد الرمز الأهم والأشهر في الحضارة المصرية القديمة بشكل خاص وفي تاريخ الإنسانية بشكل عام، ما من شك في مدى ما يمثله “مرسوم ممفيس/ مرسوم منف” أو حجر رشيد كما أصطلح العالم على تسميته من أهمية فكان نقطة الانطلاق للبدء في كتابة أهم فصول التاريخ ألا وهو التاريخ المصري القديم.

جميعًا كبرنا وتعلمنا وسمعنا ورددنا كل ما نعرفه عن حجر رشيد وإرتباطه باسم شامبليون، وجميعنا كنا نتسائل كيف تم ذلك وكيف أسهم هذا الحجر في فك رموز اللغة المصرية القديمة ولماذا هو بالتحديد وكيف كانت رحلة الحجر ليستقر في المتحف البريطاني حتى يومنا هذا. كلها تساؤلات لا شك أنها دارت في أذهان الجميع منذ الصغر واليوم نفندها ونفسرها على قدر الإمكان.

أولًا : الكشف عن الحجر بالصدفة

بعد أن تمكن نابليون بونابرت من إحتلال مصر والسيطرة عليها بعد أن كانت ولاية تابعة للسلطنة العثمانية وبعد بسط نفوذه في كافة أرجاء البلاد شرعت الدولة العثمانية في شن الحرب على نابليون وجيشه بالتعاون مع إنجلترا التي تسعى لبسط نفوذها قدر ما تمكن وتحجيم إنتشار الجيش الفرنسي في الشرق، وعلى الفور من علم نابليون بخروج الأسطولين العثماني والإنجليزي وإقترابهم من السواحل المصرية أرسل جنوده لتأمين السواحل الشمالية ومنها بناء بعض التحصينات العسكرية في أحد روافد النيل على البحر المتوسط بمدينة رشيد، وفي الخامس عشر من عام 1799م وأثناء أعمال البناء عثر أحد الجنود على كتلة حجرية سوداء داكنة اللون من البازلت مفقود أجزاء كثيرة منها، وبمجرد أن رأها الضابط الفرنسي المسئول عن أعمال البناء بيير فرانسوا بوشار أدرك أنه أمام كشف أثري هام جدًا ينبغي أن يُقدم لعلماء حملة نابليون ليعكفوا على دراسته وبحثه فقد تنبه بوشار منذ اللحظة الأولى أن النص المدون على الحجر مكرر بثلاثة أنواع من الخطوط لنفس النص وهو ما قد يُشكل الحلقة المفقودة في فك رموز اللغة المصرية القديمة المجهولة آنذاك للعالم أجمع، ومن المثير للدهشة والإعجاب هو فطنة بوشار لكل هذا وهو رجل عسكري في بلد أخرى غير موطنه الأصلي يدافع عن نفسه وجيشه ويتأهب لمعركة ربما تقضي على حياته وبالرغم من كل هذا يستطيع أن يحيد عن أفكاره العسكرية ويتعامل مع الكشف بكل إهتمام كما فعل.

ثانيًا : مصير الحجر وجهود العلماء في ترجمة نصوصه

بعد الكشف عن الحجر أُرسل لمجمع القاهرة ليكن تحت تصرف علماء الحملة الذين وقفوا عاجزين أمامه رغم كل محاولاتهم في فك شفرته وظل على هذا الحال حتى توقيع إتفاقية الإسكندرية في عام 1801م التي نصت بجلاء القوات الفرنسية عن مصر بشروط كان منها تسليم الحجر للإنجليز ليُقدم كهدية للملك چورچ الثالث ثم يتم إيداعه فيما بعد بالمتحف البريطاني ليظل محتفظًا به إلى يومنا هذا.

ظل المهتمين بعلوم اللغة والتاريخ والفنون عاكفين على دراسة الحجر فأرسلت منه عدة نسخ وعلى الرغم من جهود العديد والعديد من العلماء لم يكن لإسهاماتهم ما يُذكر فيما عدا كلًا من توماس يونج وجان فرانسوا شامبليون الذان تنافسا على فك رموز الحجر لكن كان لشامبليون السبق في هذا لعلمه ودرايته باللغة القبطية منذ صغر سنه وعلمه ومعرفته وولعه بمصر فتمكن في عام 1822م من قراءة النص المدون على الحجر بالخطين الديموطيقي والهيروغليفي ومطابقته مع النص المدون باليونانية، وبالتالي تم وضع أول أبجدية مصرية معروفة بشكل علمي ومنهجي وتطبيقها على نماذج أخرى من النصوص المصرية القديمة المجهولة آنذاك للعالم كله وترجمتها فكانت النواة الأولى لعلم المصريات فكانت تلك اللحظة التي فقد فيها شامبليون وعيه وسقط مغشيًا عليه وهو يردد “ها هي لقد تمكنت منها” اللحظة التي تغير فيها تاريخ الإنسانية بالكامل أو بتعبير أدق هي اللحظة التي ولد فيها التاريخ من جديد.

ثالثًا : لماذا حجر رشيد بالتحديد

حجر رشيد هو المسمى الذي أصطلح على تسمية الحجر من قبل العلماء نسبة لمكان العثور عليه بمدينة رشيد، وهو في الأصل مرسومًا ملكيًا يحمل اسم الملك بطلميوس الخامس ويمثل ثلاث ترجمات لنص واحد مدون عليه يوثق ويُسجل إجتماع الكهنة من جميع أنحاء مصر في تاريخ 27 مارس 196 ق.م للاحتفال بتتويج الملك بطلميوس الخامس في اليوم السابق في مدينة ممفيس/ منف لذا فاسمه العلمي الدقيق هو مرسوم ممفيس، وقد تم تعميم المرسوم الملكي الصادر عن هذا الإجتماع وتسجيله على لوحات في جميع أنحاء البلاد، ويصور المرسوم الملك بطلميوس الخامس على أنه الحاكم المحسن الخير الذي سيقدم الدعم للمعابد، ويقوم بخفض الضرائب، ومسامحة السجناء، وزيادة الرواتب الكهنوتية، وسيعم في عهده الرخاء على كافة أنحاء البلاد.

ولما كانت مصر في ذلك الوقت تحت سيطرة حكام البطالمة اليونان فكانت المراسيم الملكية تُسجل باللغة اليونانية ولانها في الأساس موجهة للمصريين فكانت تُسجل بلغة أهل البلد المصريين وهو ما تم في حجر رشيد لذا كانت اليونانية القديمة المعروفة هي المفتاح الذي قاد شامبليون للتوصل لأصل اللغة المصرية بالإضافة للقبطية التي لا تزال مستخدمة حتى يومنا هذا وهي المرحلة الأخيرة لتطور اللغة المصرية القديمة.

رابعًا : هل يعود حجر رشيد لمصر

حينما عثر بوشار على الحجر الذي بشانه غير تاريخ العالم لم يكن في حفر أثري بل كان محتلًا للبلاد تحت إمرة قائده نابليون وحينما تسلم الإنجليز الحجر من الجيش الفرنسي لم تكن مصر المحتلة آنذاك من السلطنة العثمانية طرفًا ولم يكن حينها لعلم المصريات وجود ولم يكن بالعالم ما يقيد أو يشرع أحقية إمتلاك القطع الأثرية، وعلى الرغم من وجود مئات الآلاف بل الملايين من القطع الأثرية المصرية بالخارج إلا أن حجر رشيد ليس بمجرد قطعة أثرية منهوبة فهو رمز للهوية المصرية وهو العمود الفقري الذي قام عليه علم المصريات فكيف لدولة بحجم مصر وحضارتها وتاريخها العريض الذي جعلها الوحيدة التي يوجد علم باسمها أن يكون أساس هذا العلم والقطعة التي مكنتنا من الوصول والتعرف على ملامح تلك الحضارة الأعظم في تاريخ البشرية أن تُحفظ خارج حدودها فإذا كانت مصر لا تملك من الوثائق والمستندات ما يحق لها إسترجاع حجر رشيد فما كانت الوثائق والمستندات التي سمحت لفرنسا إحتلال مصر ونهب كنوزها وكذلك تلك التي سمحت لإنجلترا في التفاوض على تلك الغنائم، فمناشدة منا على الأقل إذا لم يكن من حق أبناء مصر أن يحتفظوا برمز هويتهم فربما لن يُشكل ضررًا إذا تمت إعارة الحجر لمصر ليُعرض في إفتتاحية المتحف المصري الكبير بالتزامن مع مرور 100 عام على كشف مقبرة توت عنخ آمون وكذلك مرور 200 عام على ذكرى فك رموز اللغة المصرية القديمة على يد شامبليون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى