[ الصفحة الأولى ]تاريخ وحضارة

من العقبة إلى جمال سيناء في وادي إسلا

د. عبد الرحيم ريحان

وتستمر رحلاتنا مع الرحّالة والموثق الأردنى الشهير عبدالرحيم العرجان من العقبة إلى سحر سيناء، يُعدّ وادي إسلا من أجمل أودية سيناء قاطبة فقد كان يومًا معبرًا للقوافل على مدى العصور ومسارًا للحجيج الآمنين إلى بيت الله الحرام كما نحن اليوم بين أهل البادية ومنه عبر نبيّ الله موسى عليه السلام عائدًا إلى مصر. ويصف لنا الأستاذ عبد الرحيم العرجان رحلته
بعد مسير ساعتين بسيارة الدفع الرباعي.

وصلنا إلى نقطة البداية لوادي إسلا حيث تضيق الطريق بعدها وتنحصر بين كتفي سلاسل الجبال وعوائق الصخور والجلاميد عند مدخل “الكِيد” كما يُطلق عليه وهي النقطة التي سنبيت فيها مع أدلّتنا من قبيلة المزينة وأولاد سعيد الذين رحّبوا بنا أجمل ترحيب في أراضي عشيرتهم المتأصلة في سيناء عبر التاريخ، وهذا من طبع العرب وشيم البدو الذين يعتبرون من يدخل أراضيهم ذا شأن واحترام كبير.


وبعد سمر وإفطار من خيرات البادية وخبزها وتوضيب مخيمنا وتسليم متاعنا وشدّه على الرواحل انطلقنا بمسارنا بقيادة الرحّالة هاني خليلي العارف بأدق التفاصيل والخبير بأسرار المكان بما اكتسب من خبرة عبر سنين طوال بمرافقة البعثات السياحية وعشّاق المسير والترحال حتى غدا مرجعًا معروفًا في ترسيم المسارات في سيناء ومصر قاطبة.
مررنا بممر “أمزريق” المستمد اسمه من كلمة “يزرق” أي “العابر للمرّ الضيّق”، وتتقدّمتنا رواحل مرافقينا في مشهد أعاد إلى أذهاننا عبور قوافل أجدادنا الأنباط وهي في طريقها بين أرض الكنانة مرورًا بأيلا (العقبة) والحميمة وصولًا إلى العاصمة العربية البترا وذاكرة الحجّاج السائرين بسلام لأداء مناسك الحج وتعظيم شعائره.

بئر الحمر

وعلى امتداد الطريق أشار مرافقونا والدليل إلى آثار غزلان وبدن وما اعتلى الجبال من جوارح بنت أعشاشها بشقوق الصخور. وصلنا إلى نقطة استراحتنا الأولى عند بئر الحمر المنقوب بالصخر الجيري والذي عُلّق عليه دلوٌ بحبل مفتوح للشرب والسقاية لكل من يمرّ.


حول البئر نبت البعيثران والشيح في رطوبته فعطّرنا به إبريق شايِنا وبالقرب منه نقب الأهالي ممرات لحصاد ماء الشتاء لتصبّ في قلب البئر وعدد من البرك الصناعية المعروفة بـ”المداية”.

أكملنا طريقنا مرورًا بصخور تعلّقت كـ”الوجة” على أطراف الجبال عابرين “أم رجوم” و”سد خضريف” وأسفله بركة نقبها ماء الشلال يسمّيها الأهالي “المكرع” غطّاها نبات الحبق الذي ملأ الوادي برائحة عطرة زكية أخذنا منه شيئًا لطبق طعامنا.
الوادي غني بالحياة الفطرية والطبيعية التي حافظت عليها الحكومة المصرية بجعل المنطقة محمية طبيعية تحمل اسم سانت كاترين نسبة إلى الدير التاريخي الموجود فيها والمنسوب للقديسة كاترين.

في المحمية ما يزيد عن 30 نوعًا من الزواحف و472 فصيلة نباتية مسجلة، ناهيك عمّا استوطن من حيوانات كالوبر الصخري والوعل والضبع المخطط والثعلب الأحمر والغزال والقط البري والذئب العربي وما يمر بها من طيور في طريق هجرتها بين قارتي إفريقيا وآسيا قبل أن تُشكّل قناة السويس حاجزًا طبيعيًا لهجرة الحيوانات الأليفة.

عين أم سعيد

وبعد مسير، بلغنا نقطة تخييمنا قرب عين أم سعيد وملتقى الأودية، أحدها يصل إلى جبل موسى عبر وادي الطرفا وهناك كان عشاءنا الشهي: سجق بلحم الجمل وأرز وحساء خضار طُهي على الحطب وبماء العين اغتسلنا في خيمة مخصصة أعادت إلينا الانتعاش بعد مسير طويل لنخلد إلى النوم مبكرًا استعدادًا ليومنا التالي.

ومع الفجر أعَدنا توظيب خيامنا وتناولنا إفطارًا من العسل الأسود (الدبس) المخلوط بـ”الطحينة”، يمنحك طاقة ليوم كامل، مع طبق فول بلدي وخبز “تشاريح” المعروف في الأردن بـ”المشروح” أعدّه مرافقونا على الصاج.

الشاعر الصغير

وبالقرب من عين ماء على الطريق استرحنا في بستان نخيل وهناك استقبلنا فتى شهم في ربيعه الخامس عشر فصيح اللسان أسْمَعنا من شعره النبطي أجمل القصائد ترحيبًا بنا ومنها ما اعتز فيه بعشيرته وشيمها في الكرم.

المبيت الثالث

اخترنا مخيمنا بجانب جلاميد بازلت صماء عظيمة إن استلقيتَ عليها شعرتَ وكأنها سحبت منك كل الطاقة السلبية وأعادت شحن جسدك بطاقة الجبل وما احوجنا الى ذلك بعد ايام مسير.

أما تلك الليلة وهي الليلة الأخيرة في مسارنا فكانت المفاجأة في قلب البادية: طبق ملوخية مع أرز مصري من أطيب الخيرات كما قال الحكيم: “أن تأكل مما تزرع، بعيدًا عن أي تكلف أو استيراد”.قضينا ليلتنا بسمر حتى ساعات الفجر الأولى.

سهل القاع – نهاية الرحلة

وما بعد المخيم بقليل بدأ ظهور الماء في قلب الوادي يزداد كلما تعمّقنا فيه من عدة عيون لا تنضب عبر شهور العام وهنا أصبح التنوع النباتي أكثر كثافة وتغيّر عن المرحلة السابقة الأكثر جفافًا وصولًا إلى نهاية الوادي عند سهل القاع حيث كانت تنتظرنا سيارة الدفع الرباعي لإتمام الرحلة نحو بلدة الطور الساحلية.

خلال هذه الرحلة خضنا الكثير من التجارب في التعايش وتعرّفنا على حياة البدو ومعالم وتاريخ المكان وتبادلنا الخبرات مع رفقاء الدرب ومرافقيه فسيناء هي النقطة الأساسية لالتقاء القارات وعشاق المسير والحضارات.

مسار الرحلة:
مدخل الكيد، أمزريق، ظمي، جرات، أم سَعيدة، معلّق، الحمر، بئر الحمر، أم رجوم، جاموس، سد خضريف، الأقصرية، تَلعة الجمل (العليا والوسطى والسفلى)، معتق، سيل العرمة، المقاضب، اسمامين، سد الحمام، العليقة، أم عراض، القصبة، قطيطير، الزرانيق، الرفضية، كرم معلم، حجر الراهب، البرايق، أبو سديّة، سيل مواجد، سدود، سيل ملايحة، خُرم هجان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى