[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

دكتورة ميرنا القاضي تكتب: اليوم العالمي للمتاحف..جسور الماضي نحو مستقبل الإنسانية

في الثامن عشر من مايو من كل عام، يتزين العالم الثقافي بحدث استثنائي يحتفي بالذاكرة الجماعية للبشرية: اليوم العالمي للمتاحف. مناسبة أطلقها المجلس الدولي للمتاحف (ICOM) منذ عام 1977، لتكون دعوة سنوية لتقدير دور المتاحف كمؤسسات حية لا تقتصر مهمتها على حفظ الآثار، بل تتعداها إلى تشكيل الوعي، وتعزيز الحوار، وإحياء التراث.

المتاحف: ليست مجرد قاعات بل رواة للتاريخ

المتاحف ليست مخازن للجماد، بل مسارح تُروى فيها قصص الحضارات. كل قطعة أثرية، كل لوحة، كل مخطوط يحمل بين طياته سردية خاصة – عن شعبٍ عاش، عن فكرٍ وُلد، وعن جمالٍ خُلِّد. إنها أماكن يلتقي فيها الزائر مع روح الزمن، ويفتح فيها باباً للتأمل في مسيرة الإنسان، بكل ما فيها من إنجازات وانكسارات.

مستقبل المتاحف في المجتمعات سريعة التغير: التحدي والتحول

جاء شعار اليوم العالمي للمتاحف لعام 2025: “مستقبل المتاحف في المجتمعات سريعة التغير”, ليعكس التحديات الجذرية التي تواجه المتاحف اليوم في ظل عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة. فالعولمة، والتكنولوجيا، والأزمات المناخية، والتحولات الاجتماعية، جميعها تُعيد تشكيل طريقة تفاعل الناس مع التراث والمعرفة.

لم تعد المتاحف مجرد أماكن لعرض الماضي، بل باتت مطالَبة بأن تصبح كيانات ديناميكية تستجيب لمتغيرات الواقع. من الرقمنة الشاملة، إلى سرد روايات متعددة تعكس تنوع المجتمعات، إلى خلق تجارب تفاعلية تعيد ربط الجمهور بالهوية والثقافة – كل ذلك أصبح ضرورة لا خيارًا.

الشعار لا يحمل فقط رؤية مستقبلية، بل دعوة صريحة للمتاحف أن تتحول من أماكن للحفظ إلى مختبرات للابتكار الثقافي. أن تكون منابر للوعي الجمعي، ومساحات تفاعلية تشجع على طرح الأسئلة لا الاكتفاء بالإجابات.

في مجتمعات تزداد هشاشتها بفعل التغيرات المتسارعة، يصبح المتحف موئلًا ثابتًا يحمل ذاكرة الإنسان ويعيد تقديمها بلغة العصر، في توازن دقيق بين الأصالة والتجديد.

 

المتحف المصري الكبير: ملحمة من الحجر والضوء على أعتاب الافتتاح

وفي هذا السياق الاحتفالي بالمتاحف ودورها الحيوي، تترقب مصر والعالم بعد أسابيع معدودة لحظة تاريخية طال انتظارها: الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، المقرر في 3 يوليو 2025. إنه الصرح المعماري والثقافي الهائل الذي شُيِّد على مرمى البصر من أهرامات الجيزة، ليكون بوابة جديدة لحضارة ضاربة في عمق الزمن.

يمتد المتحف على مساحة تقدر بـ 500 ألف متر مربع، ويضم بين جنباته أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، أبرزها المجموعة الكاملة للملك الشاب توت عنخ آمون، التي تُعرض لأول مرة مجتمعة في قاعة مخصصة بتقنيات عرض حديثة. كما يحتضن “الدرج العظيم” تماثيل مهيبة لملوك مصر، تجعل الزائر يعبر ممرًا زمنيًا نحو قلب التاريخ.

لكن المتحف ليس فقط مكانًا للعرض، بل مؤسسة بحثية ومركزًا عالميًا للترميم والتعليم والتواصل الثقافي. لقد تم تصميمه ليكون تجربة متكاملة، تحاكي أحدث المعايير العالمية، وتفتح المجال أمام فهم أعمق للحضارة المصرية وتأثيرها المستمر في الثقافة الإنسانية.

إن المتحف المصري الكبير لا يأتي كحدث سياحي أو ثقافي فحسب، بل كرسالة قوية تقول إن الماضي حين يُحسن تقديمه، يصير جسراً نحو مستقبل أكثر وعيًا وأصالة.

المتاحف والمجتمعات: حوار متجدد

لم تعد المتاحف حكراً على النخبة أو المهتمين بالتاريخ والفن، بل أصبحت فضاءات منفتحة على المجتمع بكل أطيافه. تحتضن ورش العمل، والمبادرات التعليمية، والمعارض التفاعلية، ما يجعلها منابر للحوار والتواصل بين الثقافات. إنها تعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وتراثه، وتساهم في بناء جيلٍ يدرك قيمة الماضي وضرورة صونه.

دور المتاحف في زمن الأزمات

في أوقات النزاعات، والتغيرات المناخية، والهجرات الجماعية، تؤدي المتاحف دور الحارس الثقافي. إنها تحفظ ما قد يُنسى، وتصون ما قد يُدمَّر، وتقدم للعالم رواية مضادة للنسيان. وهي، في الوقت نفسه، منصات للشفاء الجماعي، حيث يجد الإنسان في ماضيه قوة على مواجهة تحديات حاضره.

مصر والمتاحف: حينما يتكلم الحجر

في بلدٍ مثل مصر، حيث ينطق الحجر قبل اللسان، يحمل اليوم العالمي للمتاحف معنى مضاعفاً. فكل متحف فيها هو شهادة على حضارة ممتدة آلاف السنين، من المتحف المصري في التحرير، إلى متحف الحضارة، إلى كنوز المتاحف الإقليمية التي تسرد التاريخ المحلي بثراء وتنوع.

وها هي المتاحف المصرية اليوم تدخل العصر الرقمي بقوة، عبر تقنيات العرض الحديثة، والتوثيق ثلاثي الأبعاد، والمنصات الإلكترونية التي تفتح نوافذها للعالم.

دعوة للتأمل والمشاركة

اليوم العالمي للمتاحف ليس يوماً للاحتفال فقط، بل هو دعوة لإعادة التفكير في علاقتنا بالتراث. كيف نحفظه؟ كيف نقدّمه للأجيال القادمة؟ وكيف نجعله أداة لبناء مستقبل أكثر وعياً وإنسانية؟

فلننظر إلى المتاحف لا كجدران صامتة، بل كقلب نابض لذاكرتنا الجمعية، وكجسور تربطنا بالماضي لتمنح الحاضر عمقاً، والمستقبل معنى.

وبصفتي دكتورة متخصصة في “العرض المتحفي”، أؤمن بأن المتحف لا يكتمل دوره إلا حين تُعرض مقتنياته برؤية واعية، وبأسلوب يسرد الحكاية خلف كل قطعة، ويُعيد ربط الجمهور بروحها. فالعرض ليس ديكورًا، بل خطاب ثقافي بصري، يتحدث نيابةً عن التاريخ بلغة العصر. ومن هنا، تأتي أهمية هذا اليوم العالمي كتذكير بأهمية الابتكار في تقديم التراث، وجعله حيًا ومتجددًا في وجدان الأجيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى