[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

د.ميرنا القاضي تكتب: أسرار الهندسة الصوتية في الحضارات القديمة

في البدء، لم يكن الكون صامتًا، كانت الأصوات تُخلق قبل الكلمات، وكانت الذبذبات تُكتب على جدران الوجود قبل اختراع الأبجدية.

وحدهم القدماء أدركوا أن الصوت ليس مجرد أداة للنطق… بل لغة خفية تتواصل بها الأكوان، وأن النغمة التي تُقال في الوقت والمكان الصحيح، يمكنها أن تُحرك ما لا يُحرّك، وتفتح ما لا يُفتح.

من غابات المايا إلى صروح مصر، ومن طين أور إلى صمت وادي السند، برع الإنسان القديم في بناء ما يشبه “المعابد الصوتية”… أماكن لا تُصلي فيها فحسب، بل تتردد فيها ذبذباتٌ تهزّ الروح وتُعيد ترتيب الداخل كما يُعاد ترتيب الكون.

 

المايا… حين بكت الصفارات، وتكلّمت الصخور

 

ليست أسطورة، في أعماق أدغال يوكاتان، وفي أطلال معابد كـ”تشيتشن إيتزا” و”بالينكي”، سُجّلت أصواتٌ غريبة تنبعث من تجاويف الجدران ومن صخور نُحتت بدقة لا تُصدق، كان الناس يصفقون فتعود إليهم الصرخة، لا كصدى… بل كنغمة طائر “كيتزال”، رمز الروح في المعتقد الماياني، أما الكهنة، فكانوا يحملون صفارات خزفية تُصدر أنينًا بشريًا مروّعًا، يُستخدم لاستدعاء الأرواح، أو لفتح أبواب ما يسمّونه “التيول”، العالم الآخر.

لكن الأعجب: أن بعض الصخور كانت تصدر ذبذبات عند اقتراب زلزال، وكأنها أجهزة استشعار بدائية، زرعها القدماء لتُعلمهم أن الأرض تغلي من الداخل، فهل كانت تلك المعابد مُعدّة لتكون مستقبِلات للكون؟، هل فهم المايا أن الصوت لغةٌ تُكتب على سطح العالم وتُقرأ بالأذن المهيّأة؟

 

المصريون… حيث كل حجر يرتّل

 

في مصر القديمة، لم تكن الكلمة تُقال إلا إذا كانت موزونة، ولم يكن اسم الإله يُنطق إلا على مقامه، الكهنة لم يكونوا خُدّام آلهة، بل مهندسو ذبذبات، في الكرنك، كل عمود وُضع ليعيد توجيه الصوت.

وفي دندرة، داخل غرفة معزولة عن صخب المعابد، كان الكهنة يدخلون ليهمسوا — فقط ليهمسوا — فيرتدّ الهمس موجة، ويعود إليهم وهم ليسوا كما دخلوا.

غرفة الرنين في معبد حتحور بدندرة، مكوّنة من حجر مصمت وسقف منخفض، تعيد للصوت تردده، حتى يشعر المتكلم بأن الجدران تهمس له… لا العكس، تردد هذه الغرفة — كما أثبتته الدراسات الحديثة — 111 هرتز، وهو التردد الذي تُحفَّز به القشرة الدماغية الصدغية، مما يخلق شعورًا بالانفصال عن الجسد… أو بلغة الكهنة: الاتحاد مع النجوم، وكان الكهنة يتبعون تقويمًا صوتيًا، لا فلكيًا فقط، لم تكن الطقوس تُقام في أي وقت، بل في اللحظة التي “يستقيم فيها صوت الأرض مع نغمة السماء”.

حضارة الإنكا (بيرو) – معابد كوسكو وساكسايوايمان

 

استخدم الإنكا حجرًا يُسمى “الديوريت” له خاصية عجيبة في عكس الصوت وتضخيمه، بعض مواقعهم المقدسة بُنيت عند تقاطعات جبلية معينة يُصدر فيها الصوت أصداء متعدّدة — ما اعتبروه “بوابات روحية”، في قلعة “أولايتايتامبو”، تتردد التراتيل بشكل حلزوني، مما يدفع البعض لتسميتها “غرفة البوابة الصوتية للآلهة

أور… حين رتّل السومريون الطين

 

في معابد سومر وبابل، وُجدت ألواح طينية تحوي تراتيل لا تُقرأ ككلمات، بل كموسيقى، كل سطر فيها يُنطق بوزن، وكل رمز يُختار بحسب النغمة، في الزقورات، كانت الكاهنات يُلقين التراتيل أمام مذبح الطين، فيصدح الصوت، ويرتدّ مضاعفًا بسبب بنية الجدران وقنوات الهواء الخفية، تشير بعض الدراسات أن الزقورات لم تكن معابد فقط، بل أجهزة تضخيم صوتي روحي، توصل الصوت إلى الآلهة — أو إلى عوالم موازية، وتظهر نقوش نادرة تشير إلى أن الكلمة، إذا نُطقت خطأ، قد تجلب الفوضى، وإذا نُطقت بنغمتها الصحيحة، تُعيد توازن ما فوق وما تحت.

مفردات واضحة لنظام كوني يعتمد على الصوت، لا على الكلمة.

 

وادي السند،  حين ينطق الصمت، في موهينجو دارو وهارابا، لم تُترك نصوص واضحة، لكن الأبنية تتكلم، الغرف مقببة، والجدران مائلة بزوايا غير عشوائية، والأرضيات مصممة لتعكس الصوت، لا لتمتصه،أحواض الماء تعيد الصدى، وتجاويف صغيرة تُحدث ذبذبات عند السير عليها.

بل إن توزيع الطوب نفسه يُظهر نمطًا منتظمًا يشبه الأنظمة الصوتية الحديثة، يرجّح العلماء أن هذه الأبنية صُممت للطقوس التأملية، حيث يُستخدم الصوت كأداة تحوّل داخلي، لم يكونوا يتكلمون… بل ينطقون بالصمت الذي يصدر ذبذباته من الجدران نفسها.

 

حضارة النبطيين – البتراء (الأردن)

 

في البتراء، وخاصة في المسرح النبطي والمعابد العليا، يُلاحظ أن الصوت ينتقل بوضوح من نقطة معينة حتى آخر المقاعد — رغم انعدام أي تقنية صوتية.

التصميم النبطي للمذبح العالي يوحي بفهمهم لتوجيه الصوت أثناء الطقوس الدينية، وربما لتمرير “ترانيم مقدسة” إلى الجماهير دون عناء.

معابد صوتية… أم آلات سماوية؟

إذا تأملتِ المشترك بين هذه الحضارات البعيدة، ستجد رابطًا مدهشًا: كلها استخدمت الصوت كقوة فاعلة، كلها صمّمت أبنيتها بحيث تتجاوب مع الذبذبات، وكلها آمنت أن “النغمة” إذا وُضعت في الزمان والمكان الصحيح، تُغيّر الواقع، هل كانت تلك المعابد مجرد مبانٍ للعبادة؟ أم كانت أجهزة صوتية معقدة، تُعيد برمجة العقل، وتُجري اتصالًا بين الإنسان والسماء؟، هل كان الكاهن هو المايسترو، والمعابد هي الآلات، والطقوس هي السيمفونية الكونية الكبرى؟

 

النهاية ليست نهاية… بل نداء للإنصات

 

نحن لا نفتقد المعابد… بل نفتقد آذان الذين سمعوا المعابد وهي تتكلم، نحن لا نحتاج إلى بناء جديد… بل إلى وعي قديم، الصوت ليس رفاهية… بل ذاكرة، الحجارة ليست جامدة… بل تحتفظ بالذبذبة الأولى، وما بُني ليُرنّم، لا ينبغي أن يُهمل، بل يُصغى إليه.

 

 

فهل نحن مستعدون لسماع “أصداء الأزل”؟، أم أن صمتنا هذا… هو ضجيجنا الحقيقي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى