[ الصفحة الأولى ]تاريخ وحضارة

ابن فضلان ووصفه للفايكنج ..تراثنا العربي عالمي واندثار محلي

في بدايات القرن الرابع الهجري بالتحديد في 11 صفر سنة 309ه/ 21 يونيو 921م ارتحل أحمد بن فضلان من بغداد، مدينة السلام، ضمن سفارة أرسلها الخليفة العباسي المقتدر (295-320ه/908-932م) إلى ملك الصقالبة، على أطراف نهر الفولغا؛ وذلك رداً على رسالة ملك الصقالبة التي طلب فيها العون من الخليفة ضد مملكة الخزر وأن يبعث إليهم من يعلمّهم أمور دينهم.

مرت السفارة بمدن: همذان، والري، ونيسابور، ومرو، وبخارى، ثم نهر جيحون إلى خوارزم إلى بلغار الفولغا؛ هنا وصلوا في 18 محرم 310ه/ 12 مايو 922م. ولكن للأسف بسبب فقدان الجزء الأخير من الرسالة لم نهتدي إلى خط السير أثناء العودة.

في الحقيقة إن المخطوط الأصلي للرسالة مفقود؛ والمخطوطات التي عُثر عليها غير مكتملة، فمنها مقطع تم اكتشافه في روسيا سنة 1817م وتم نشره باللغة الألمانية سنة 1823م، ومنها مخطوطتين عُثر عليهما ضمن المجموعة الأثرية الخاصة بسفير بريطانيا في القسطنطينية السير جون أمرسون بعد وفاته، ولا يُعرف متى وكيف حصل عليهما؟ أما المخطوط الأخير فهو مكتوب بلاتينية العصور الوسطى، وجد في دير كسيموس قرب ثيسالونيكا شمالي اليونان؛ غير أن كاتب هذا المخطوط وتاريخ كتابته غير معروفين. وقد تم تدعيم تلك المخطوطات بما وصل إلينا من نقولات عن النص الأصلي للرسالة. وبالتالي أصبح المؤرخين أمام عمل علمي شاق من أجل إخراج نص أقرب للنص الأصلي للمؤلف.

وفي سنة 1959م تم نشر وتحقيق المخطوط بواسطة الدكتور سامي الدهان في دمشق، وفي نفس الوقت حققه بير فراوس دولوس، الأستاذ في جامعة أوسلو بالنرويج؛ والذي قام بتجميع كل المخطوطات الخاصة بالرحلة وترجمتها وعقب ذلك تم نشرها وتحقيقها عدة مرات في أكثر من دولة، وتم ترجمتها لأكثر من لغة كاللاتينية، والألمانية، والدنماركية، والسويدية، والإنجليزية، وبالطبع اللغة العربية.

وتعتبر رسالة ابن فضلان المرجع الرئيسي لتاريخ الشمال (بلاد الروس، والبلغار، والأتراك، والمناطق النائية).. وهذه البلاد كانت آنذاك تقبع في ظلام الأمية؛ فلم تكن تعرف القراءة والكتابة، ويتضح ذلك أكثر من وصف ابن فضلان لهم والذي يمكن اختصاره في: أنهم قبائل بدائية همجية في بعض الأحيان، فكثيراً ما نجده يشبه معيشتهم بمعيشة الحيوانات، وكثيراً ما يعلق إلى عدم معرفتهم بأمور النظافة الشخصية.

فكانت رسالة ابن فضلان أرض خصبة للأعمال الفنية فنتج عنها لوحة ورواية وفيلم ثم مسلسل درامي، ففي عام 1883م ألهم وصف ابن فضلان لكيفية توديع الفايكنج لموتاهم خيال الفنان هنري سميرادسكي Henryk Siemiradzki لينتج لوحة تحت عنوان “Funeral of a Rus’ Noble”، وفي عام 1976م أشعلت المخطوط خيال الروائي الأمريكي مايكل كرايتون Michael Crichton ودفعته لكتابة روايته “أكلة الموتى Eaters of Dead”. حيث يقول في ذلك: “يعد مخطوط ابن فضلان أقدم تسجيل معروف كتبه شاهد عيان عن حياة الشعب الاسكندنافي؛ وهو بذلك وثيقة فريدة من نوعها، تصف بدقة متناهية أحداثاً وقعت منذ ما يزيد عن ألف عام..”.

وقد تم ترجمة الرواية إلى العربية بواسطة تيسير كامل ضمن روايات دار الهلال، وصدر منها الطبعة الثانية في سنة 1999م، وهي نفس السنة التي صدر فيها الفيلم العالمي المأخوذ من الرواية نفسها 13th Warrior المحارب الثالث عشر، من بطولة Antonio Banderas أنتونيو بانديراس، وقد ظهر الممثل المصري عمر الشريف بدور المترجم المرافق للبعثة.

ومن شدة واقعية الرواية التي صاغها كرايتون فيعتقد البعض أنها هي الرحلة الحقيقية لابن فضلان، فإن قارنا بينها وبين ما وصفه ابن فضلان في رسالته، فإن كرايتون استخدم أسلوب السرد على لسان المؤلف، كما جعل سبب خروج ابن فضلان من بغداد هو التخلص منه، فبعد أن تجرأ على حُرمة منزل أحد التجار؛ شكى هذا التاجر للخليفة، فتصادف وجود رسالة ملك الصقالبة؛ فأرسله في تلك السفارة. وعند وصول الحديث عن الروسية فإن كرايتون ينطلق بروايته إلى منحى خيالي آخر قائم على استنجاد أحد ملوك الشمال بزعيمهم، بسبب ما يعانيه شعبه من رعب لا يُسمى .. أي لا يمكن تخّيله ويعجز كل الأقوام عن مقاومته وهم كما يتضح في الرواية “وحوش الضباب”، وتم إجبار ابن فضلان على المشاركة في تلك الرحلة البطولية.

ووحوش الضباب الذين حاربهم ابن فضلان في الرواية والفيلم، لم يتم الإشارة إليهم في المخطوط؛ وأعتقد أن كرايتون قد اقتبس هذا من وصف ابن فضلان لمشهد الشفق القطبي المصحوب بعواصف الشمال، أو ما سماها غاليليو “آرورا” حيث يقول: “وسمعت في الجو أصواتاً وهمهمة عالية؛ فرفعت رأسي فإذا غيم أحمر مثل النار قريب مني، وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه، وإذا فيه أمثال الناس والدواب، وإذا في أيدي الأشباح التي فيه، تشبه الناس، رماح وسيوف أتبينها وأتخيلها، وإذا قطعة أخرى مثلها أرى فيها أيضاً رجالاً ودواب وسلاحاً، فأقبلت هذه القطعة تحمل هذه كما تحمل الكتيبة على الكتيبة، ففزعنا من ذلك واقبلنا على التضرع والدعاء، وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا”. ويشير ابن فضلان أنهم حين سألوا ملك الصقالبة عن ما رأوه؟ قال: إنّ أجداده كانوا يقولون أنهم من مؤمني الجن وكفارهم يتقاتلون كل عشية، وأن هذا يحدث كل ليلة.

إن ابن فضلان لم يرحل مع الفايكنج أو يشاركهم في رحلة بطولية كما يظهر في الرواية، حيث أنه شاهد هؤلاء الفايكنج أو كما يُطلق عليهم “الروسية” على نهر إتل “نهر الفولغا” حين وصلوا للتجارة، حيث قال: “ورأيت الروسية وقد وافوا للتجارة، ونزلوا على نهر إتل فلم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر حمر لا يلبسون القراطق.. “. وعقب إتمام حديثه عنهم وعن عاداتهم يستكمل حديثه بسلاسة عن الخزر وعن بعض عاداتهم، ما يعني أنه لم يتعرض للخطف من قِبل الفايكنج كما أشار تقديم الترجمة العربية للرواية، ولا أنه شارك الفايكنج في رحلة بطولية.

ولعل الأمر المثير للسخرية: أن المخطوط حينما تم نشره بالنرويج لم يحظ بأي اهتمام يُذكر، وأن الفضل لتلك الشُهرة الغير معهودة بكتب التراث يرجع إلى رواية كرايتون وفيلم بنديراس، الذي امتدت شهرته لتصل إلى وطننا العربي؛ لندرك أنه من الأولى لنا أن نتحدث عن تراثنا ونعرف به، فكانت الدراما السورية “سقف العالم” التي تم إنتاجها وعرضها على الشاشات العربية في عام 2005م، لكن يؤسفني أن أقول أن الدراما انتهجت نهج الفيلم وبالتالي عكست الرواية لا المخطوط، الأمر الذي رسّخ في أذهان الكثيرين أن رحلة ابن فضلان إلى الشمال ما هي إلا ما ورد في الفيلم.

إننا لا يمكننا أن ننكر الشهرة التي اكتسبتها رحلة ابن فضلان بفضل الرواية والفيلم معاً، لكن إذا ارتبط الأمر بالتراث فأعتقد أنه يجب تقديمه بصورته الأصلية، خاصة إن كان يخص أمر فريد من نوعه ومُلهم كرحلة ابن فضلان.. فنحن أولى بالتعريف بأهمية ذخائر التراث العربي، وسأتعارض هنا مع جملة تم وضعها في التقديم العربي للرواية، وهي كما يلي “وكان الأولى بأولئك الذين لا يملون الحديث عن ذخائر التراث العربي، أن يقوموا بجهد مشابه لما قام به الكاتب الأمريكي مايكل كرايتون Michael Crichton ويقدمون التراث في ثوب جديد وصياغة معاصرة”. التراث العربي جهد ساعد الغرب على التقدم والأولى بنا أن نقدمه كما هو، وأن نبحث طرق الاستفادة منه، لا أن نختلق أحداثاً ملفّقّةً لنجعله مستساغاً لمن يقرأه. ولا يجب أن ننسى أن على كتب تراثنا العربي انطلقت الحضارة الأوروبية.

ابن فضلان ووصفه للفايكنج ..تراثنا العربي عالمي واندثار محلي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى