ذاكرة انتصارات رمضان.«عين جالوت».معركة استعادة هيبة الإسلام
تعد معركة عين جالوت التي وقعت بتاريخ (الثالث من سبتمبر1260م/25 رمضان 658 هـ) من أهم المعارك التي عرفها التاريخ الإسلامي، حيث قُضى فيها على أسطورة الجيش التتري الذي لا يقهر والذي لا يسلم من بطشه أحد، فقد وصل وصل خطر المُغول إلى الصين وبلاد فارس وممالكها الإسلامية والأتراك، فكانت هزيمتهم في عين جالوت البلدة التي تقع تقريبًا بين مدينة بيسان شمالاً ومدينة نابلس جنوبًا في فلسطين، بداية نهاية الإمبراطورية العملاقة، ففي أحلك الظروف ظهر الملك المُطفر سيف الدين قطز ووحد المماليك لصد الهجوم المُغولي، واستطاع مع الأمير بيبرس بفضل الحنكة العسكرية والسياسية الانتصار عليهم، وتعقب فلولهم، بل ووحدوا الشام ومصر لمدة 200 سنة .
إمبراطورية المغول
أسس المُغول أكبر إمبراطورية عرفت في التاريخ بعد احتلالهم أواسط آسيا والصين وروسيا وبلغاريا وبولندا والمجر وشمال ألبانيا وحدود فيينا، واجتاح جيش المغول الخلافة العباسية، دخل الغزاة الهمج بغداد وقتلوا سكانها من رجال ونساء وأطفال دون تفرقة، ولم يسلم من الموت إلا قليل، ثم خربوا المساجد وانتزعوا ذهب قبابها، وسلبوا القصور وجردوها من التحف والمشغولات قيمة وهدموها، وأتلفوا عددا كبيرا من الكتب القيمة وذكر بعض المؤرّخين أن المغول رموا كتب مكتبات بغداد في نهرى دجلة والفرات، فكانت لكثرتها جسراً يمرّون عليها ركاباً ومشاةً، وتغيّر لون الماء إلى الأحمر والأزرق بفعل دماء القتلى وحبر الكتب التي أغرقت، وأهلكوا كثيرا من أهل العلم فيها، وبالغ المؤرخون في عدد ضحايا الغزو المغولي حين دخلوا بغداد، فقدرهم بعض المؤرخين بمليون وثمانمائة ألف نسمة، على حين قدرهم آخرون بمليون نسمة، تلاها مدن الشام حتى بلغوا حدود الدولة المملوكية .
كانت مصرفي تلك الفترة تئِنُ من الصراعات الداخلية كان يحكم دولة المماليك في ذاك الوقت المنصور نور الدين علي بن أيبك، وهو صبي صغير يبلغ من العمر 15 سنة، قام السلطان المظفر سيف الدين قطز، وهو من المماليك البحرية بخلعه بعد إقناع بقية أمراء ووجهاء الدولة بأنه فعل ذلك للتجهيز والتوحد ضد الخطر المحدق بالدولة المملوكية بشكل خاص والمسلمين بشكل عام فبدأ بالتحضير لمواجهة التتار، فقام بترتيب البيت الداخلي لمصر وقمع ثورات الطامعين بالحكم، ثم أصدر عفوًا عامًا عن المماليك الهاربين من مصر بعد مقتل فارس الدين أقطاي بمن فيهم الظاهر بيبرس.
رسالة هولاكو لقطز
أرسل هولاكو إلى قطز رسولاً كما ذكر المقريزي في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك) برسالة تهديد قال فيها:
“من ملك الملوك شرقا وغربا الخان الأعظم باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطانا على من حل به غضبه، فلكم في جميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، واسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ، وقد سمعتم إننا فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا العباد، فعليكم بالهرب وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويلكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، وسهامنا خوارق، وقلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعائكم علينا لا يسمع، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أمامنا سلم، فان انتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وان خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا أنفسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، فلا تطيلوا الخطاب وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمى نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاها ولا عزا ولا كافيا ولا حرزا، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقى لنا مقصد سواكم”.
استشاط قطز غضبا وأمر بقطع رأس رسول هولاكو وتعليق رأسه على باب زويلة ، واجتمع مع وجهاء الدولة وعلمائها كان من بينهم العز بن عبد السلام وتم الاتفاق على التوجه لقتال التتار إذ لا مجال لمداهنتهم، وكان العز بن عبد السلام قد أمر أمراء ووجهاء الدولة أن يتقدموا بنفائس أملاكهم لدعم مسيرة الجيش الإسلامي، فطلب قطز الأمراء وتكلم معهم في الخروج للحرب فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل، ولما وجد منهم هذا التخاذل والتهاون ألقى كلمته المأثورة:”يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن أختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين”.
فتوى تجهيز الجيش
لم يكن أمام قطز بعد عجزه عن تجهيز الجيش للأزمة اقتصادية إلا فرض الضرائب فطلب من العز بن عبد السلام إصدار فتوى تُشرع له هذا، وبالفعل صدرت الفتوى تُجيز جمعا لضرائب بشروطٍ محددة، وما إن تم تجهيز الجيش سار به من منطقة الصالحية شرق مصر حتى وصل إلى سهل عين جالوت حيث تواجه الجيشان الإسلامي والمغولي .
تحرك الجيش للمعركة
خرج قطز في 15 شعبان 658هـ / أغسطس 1260 م يسبقه بيبرس البندق داري ليكشف أخبار المغول، واجهت سرية بيبرس طلائع جنود المغول في منطقة قرب غزة، فأرسل بايدر أخو كتبغا قائد المغول في غزة كتابا يعلمه فيه بتحرك المسلمين، استطاع بيبرس الانتصار عليهم بعد مناوشات وقتال، فتوجه قطز إلى غزة ومنها عن طريق الساحل إلى شمال فلسطين، في تلك الأثناء اجتمع كتبغا مع وجهاء جيشه، فأستشار الأشرف صاحب حمص والمجير بن الزكي، فأشار البعض عليه بالانتظار حتى يعود سيده هولاكو خان، ومنهم من أشار إليه اعتمادا على قوة المغول التي لا تقهر أن ينطلق لقتالهم، اختار كتبغا أن يتجه لقتالهم فجمع جيشه وانطلق باتجاه جيش المسلمين حتى لاقاهم في المكان الذي يعرف باسم عين جالوت.
قسم قطز جيشه لمقدمة بقيادة بيبرس، وبقية الجيش اختبأت بين التلال وفى الوديان المجاورة في حالة هجوم مضاد، وقام بيبرس بهجوم سريع ثم انسحب متظاهراً بالانهزام لاستدراج المغول في حين قام قطز بهجوم مضاد كاسح، ومعه الفرسان الكامنون فوق الوادي، وانطلت الحيلة على كتبغا فحمل بكل قواه على مقدمة جيش المسلمين واخترقه وبدأت المقدمة في التراجع إلى داخل الكمين، وخرج قطز ورجاله وحاصروا جيش كتبغا، الذي حمل بعنف على مقدمة جيش المسلمين فاندحرت ميسرة المسلمين وعندئذ ألقى قطز خوذته على الأرض وصاح “وإسلاماه”، وحمل بنفسه ومن معه حتى استطاعوا أن يشقوا طريقه فى داخل صفوف المغول ولم يمض كثير من الوقت حتى هُزِم الجيش المغولي وسقط كتبغا.
وكان انتصار كبير للمسلمين، وسجل التاريخ في هذه المعركة مهارة فرسان الخيالة الثقيلة المسلمين و تمكنهم من هزيمة نظرائهم المغول بشكل واضح في القتال القريب، وهو ما لم يُشهد لغيرهم من قبل، نقطة أخرى ظهرت لأول مرة بتلك المعركة وهي المدفعية وإن كانت بالشكل البدائي إلا أنها استخدمت بالمعركة من جانب جيش المسلمين لتخويف خيل المغول وإرباك الخيالة مما ساعد في خلخلة التنظيم العسكري المغولي بالمعركة، وقد تم شرح تركيبة البارود المتفجرة لتلك المدافع بعد ذلك في الكيمياء العربية والكتيبات العسكرية في أوائل القرن الرابع عشر وبعد المعركة قام ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق في 27 رمضان 658 هـ.
كان الانتصار في معركة عين جالوت أثراً عظيماً في تغيير موازين القوة بين القوى العظمى المتصارعة في منطقة الشام، فقد تسببت خسارة المغول في المعركة من تحجيم قوتهم، فلم يستطع القائد المغولي هولاكو الذي كان مستقراً في تبريز من التفكير بإعادة احتلال الشام مرةً أخرى، وكان أقصى ما فعله رداً على هزيمة قائده “كتبغا” إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وايضا كان له أثرا كبيراً في رفع روح ومعنويات المسلمين من جهة، وفي طموح المسلمين في تحرير ما بقي من مدن وبلدان العالم الإسلامي التي كانت تقبع تحت احتلالين: الأول الاحتلال المغولي، والثاني الاحتلال الصليبي، وتبدد الاعتقاد بمقولة أن التتار لا يمكن أن يُهزموا، وبدأ المسلمين في الإعداد لاستعادة هيبة الإسلام بعد غياب دام سنين طويلة.