“المرأة والرجل”.. علاقة عمادها الانفصام في المطلق

بقلم: جليلة كلاعي
“كيد الرجال كيدين وكيد النساء ستاش 16″، مثل من ضمن الأمثلة الشعبية التي تحذر من شرور المرأة والرجل، وإن بتفاوت، وخبثهما ودهائهما ويترك في الأذهان صورة مشوهة ليس لشيطنة المرأة فحسب، بل للعلاقة بينها وبين الرّجل التي تقوم على الدهاء والمكر والحذر، وتحيل إلى وجود خلل في العلاقة بينهما.
ولم يحظى الموضوع بإهتمام مجتمعاتنا العربية، إلا في إطار الزواج أو الصداقة أو الحب، خلافاً للمجتمعات الأخرى التي نرى فيها دراسات عن الأزمة بين الرجال والنساء دونما تحديد لأطر بعينها أي باعتبارهما إنسانين، في علاقتهما المجردة خلل.
خلل في علاقة الرجل بالمرأة تناولته دراسات غربية عديدة أبرزها كتاب الطبيب النفسي الأمريكي جون غراي “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة” وفيه تناول المشاكل التي قد تحدث بين الرجل والمرأة نتيجة الاختلافات بينهما، نتجت عنه أزمات، توجسات، خوف، أحكام مسبقة، وأيضا طلاق.
وقد وقفنا عند حجم الظاهرة فترة الحجر الصحي- تحرش جنسي في مواقع العمل وفي الفضاءات العامة، اغتصاب وحتى قتل، مظاهر في المجتمع التونسي تبدو في ازدياد في الفضاءين العام والخاص وحتى الافتراضي منه، الذي يجسد ربما أكثر من الفضاءات الأخرى الأزمة القائمة بين المرأة والرجل، سواء من خلال التدوينات أو التفاعلات التي غالباً ما تجبر المرأة على الانسحاب من النقاشات كما توصلت إليه دراسة لمركز “كوثر” حول المرأة العربية في النقاش الافتراضي خمس سنوات خلت. وتدون المرأة من جهتها في بعض الأحيان أحكام تعميمية عن الرجال وكأن الفضاء، وبالتالي الحياة أصبحت حلبة حرب بين كائنين، مختلفين بيولوجيا، نعم ولكن كل منهما إنسان، يلف بريبة مسبقة من الطرف الآخر.
وحيث أن المرأة، مكبلة اجتماعياً بمجموعة من القوالب والقواعد، تصبح شاذة إن تجاوزتها حتى في أبسط المسائل، كأن تبادر بالتعبير عن مشاعرها أو أنها تقدم على خطوة أولى تجاه الرجل أو أن تعبر عن إعجابها به، وهو مسار تراكمي قد يفسر ما وصلت إليه مظاهر العلاقة في جوانب عديدة.
فقد وصل عدد النساء المتعرضات للعنف نفسياً ومعنوياً نسبة 100 بالمائة سنة 2018 حسب وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن، كما بلغت حالات الطلاق 43 حالة يومياً بحسب ما أوردته احصائيات وزارة العدل التونسية بتاريخ 15 مارس 2020، إلى جانب 13 ألف حالة طلاق سنوياً، علاوة عن التعنيف في الفضاءات العامة وتعدد الجرائم فيما بين المحبين والمخطوبين.
أرقام وإحصائيات ومظاهر قابلة لكل القراءات في الأسباب والدّواعي والارتفاع والانخفاض والتداعيات النفسية والجسديّة وحتّى لجهة التكلفة الاجتماعيّة، ولكنها تحيل أيضا – وربما بالأساس – إلي ذلك الخلل في العلاقة بين الرجل والمرأة، فأين مكمن الخلل هذا وما هي تجلياته؟.
قد يعود مكمن الخلل إلى إختلاف لا يمكن إنكاره بين سلوك المرأة والرجل يجعل التصادم بينهما مستمرا مدى الحياة، وهذا اختلاف مردود حسب البعض الطبيعة نفسها، وهو ناتج عن التركيبة البيولوجية والفيزيولوجية والنفسية المختلفة لكليهما وطرق تفكيرهما المطبوعة بالاختلاف ككل العلاقات الأخرى.
اختلاف أو تصادم لا يمكن أن يكون ضارًا إذا انتهى عند هذا الحد، فنفس الصفات تجعل من كل منهما طبيباً أو مدرساً أو مديراً أو إنساناً ناجحاً، وأي خروج عن هذه القاعدة أو تعسف عليها يسبب المشكلات.
هذا ما تؤكده الدراسة التي قام بها عالم النفس الأميركي، ريتشارد دريسكول، بين زوجين تقليديين، في حوار تخيّلي يرسمه: “تجلس إحدى الزوجات مع زوجها في البيت ثمّ تعبر عن ضيقها وتتّهم زوجها بجملة من الاتهامات وبعد شكوى كثيرة من المرأة، وفي المقابل، يصمت الزوج، ولا يردّ بشيء! وهي تنتظر، وبعد انتظار طويل يتمتم الرجل في النهاية قائلًا: “ماذا تريدين مني أن أقوله؟”.
ولعل مكمن الخلل يكمن في منطق تفكير وسلوك المرأة والرجل في آن واحد، منطق وتفكير وسلوك مختلف فسره بعض العلماء بفوارق بين مخ الذكر ومخ الأنثى، فوارق يمكن أن تفسّر لنا الاختلاف في طريقة التفكير والسلوك بين الرجال والنساء وهو ما يؤدي إلى التباين في الاهتمامات لدى الجنسين يرجع إلى طبيعة الذكر والأنثى منذ صغرهما، فكثيرًا ما تجد حكايات البنات (من 2-4 سنوات) تدور حول الأشخاص بينما تدور حكايات الأولاد حول الأشياء بحسب ما توصلت اليه دراسة أجرتها الأكاديمية الأمريكية للعلوم العصبية، أكثر جهات العالم تخصصًا في علوم المخ والأعصاب وجامعة مانيتوبا الكندية.
دراسة أكدت بعد أبحاث على امتداد سنوات أنّ الفارق بين الأولاد والبنات يتجلى بشكل أوضح خلال العام الأول بعد الولادة، ويمتد خلال فترة الطفولة. نتيجة أكدها أيضا تحليل لأكثر من مئة دراسة أجراها عالم النفس وارين إيتون وزملاؤه في جامعة مانيتوبا بكندا عام 1986، وخلصت تلك الدراسة إلى أن الولد العادي يفوق نشاطه ما تتمتع به 68% من البنات.
هذا عن الجانب العلمي الذي يمكن أن يستند له البعض ويرفضه البعض الآخر، غير أن عوامل كثيرة معيشة يمكن أن تفسر الخلل وهي في علاقة بالتنشئة الاجتماعية والمتمثلة في إعدادهم للأدوار المستقبلية ليكونوا أعضاء فاعلين في المجتمع، وتَلقينهم للقيم الاجتماعية والعادات والتقاليد والعرف السائد في المجتمع، وهي عملية تعلم وتعليم وتربية، تقوم على التفاعل الاجتماعي وتهدف إلى إكساب الفرد (طفلاً فمراهقاً فراشداً فشيخاً) سلوكاً ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة، تمكنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي معها، وتكسبه الطابع الاجتماعي، وتيسر له الاندماج في الحياة الاجتماعية. وضمن تلك التنشئة، تكاد كلمات مثل الحب، الاحترام، الاستقلالية تكون منعدمة.
وتسهم أطراف عديدة في عملية التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمدرسة والرفاق وغيرها، وتبقى أهمها الإطار الأسري كونها المجتمع الإنساني الأول الذي يعيش فيه الطفل، والذي ينفرد في تشكيل شخصيته لسنوات عديدة من حياته تعتبر حاسمة في بناء شخصيته، تنشئة قوامها الضغط وفق قوالب جاهزة للطرفين، وتؤهل الأنثى لسلوكيات وأدوار ووظائف وتقولب الرجل في أخرى ليعيداها للمجتمع دون إيلاء أهمية للفرد الذي يمثلانه بأحلامه وتناقضاته ومواقفه وسلوكياته المستقلة وفقا لما أورده عالم الاجتماع الدكتور عدنان الأمين: التنشئة الاجتماعية وتكوين الطباع المركز الثقافي العربي 2004 “إن أدوار الذَّكر تختلف عن أدوار الأنثى؛ فالطفل الذكر ينمَّى في داخله المسؤولية، والقيادة، والاعتماد على النفس، في حين أن الأنثى في المجتمعات الشرقية خاصة لا تنمَّى فيها هذه الأدوار” والأمثلة عديدة.
تؤهل الأنثى في الفضاء الخاص وفي الكتب المدرسية لتكون مستكينة ومسؤولة عن نجاح “مؤسسة الزواج” للآخرين، لا لنفسها ولا لزوجها ويؤهل الرجل ليكون مركز السلطة حتى إن لم يمتلك من مقوماتها شيئا. تتم تنشئة الأنثى على أنها لاشيء دون رجل في حياتها وفي أطر محددة “لا تنحي شاشية على ولية” و”طفلة بلا معشوق تمشي تروح” و”ظلّ راجل ولا ظلّ حيط”، مما يعكر وضعها إن لم تتزوج لتصبح عانسا، لا يقبل عليها الرجال ومطلقة، تستباح في الكلام والأفعال وأرملة لتكون إما محل شفقة أو أن تكون مطالبة بوضع حد “لحياتها” والالتفات فقط لحياة أبنائها مهما كان سنها، وحتى وإن تقدمت في السن، فإن “قالب” المجتمع يلاحقها ليفرض عليها سلوكا ومظهرا يحدده لها.
فكريمة ابنة الـ 37 سنة لم تتزوج بعد، التقيت بها صدفة في أحد الأسواق وكانت تتحدث لجارتها عن مسالة الزواج” لو اخترت أي شخص ليكون زوجا لي لانتقلت من لقب العانس الى المطلقة وبالتالي إلى خانة انتقادات جديدة لا تختلف كثيرا على الأولى ومن أهم تجليات التخلف في مجتمعنا هو رسوخ القناعة في الأذهان أن المرأة لا تكتمل سوى بإقتران وجودها برجل في إطار الزواج”.
الأستاذ والباحث في علم الاجتماع، حسن قرنفل، يفسر هذه الظاهرة، بالعودة إلى التصورات الأولية التي كانت لدى المجتمعات الإنسانية حول وظيفة المرأة، والتي تختزل في “الخصوبة وإنجاب الأطفال، والاعتناء بالأسرة، وكلما كان لديها أطفال أكثر كلما كانت لها قوة داخل المجتمع، والمطلوب منها أن تتزوج بأسرع وقت وتنجب أكبر عدد من الأطفال وأن تأخرها عن الزواج يشكل مصدر قلق للأسرة، لأن ذلك يقلل من قيمتها”.
هذه القوالب تساهم في خلق خلل في العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال ما يحدده ما للذكور وما للإناث من أدوار ومسؤوليات وفرص وامتيازات وتوقعات وقيود حسب كل ثقافة. يظهر ذلك جليّا في الأمثال الشعبية التونسية مثل “اخطب لبنتك وما تخطبش لولدك” “وخوذ بنت الأصول، لا بد الزمان يدور” و “بكاها جا سيدو ونساها”، وفيها تكريس إما لصفات محددة أو أنها تدعم علاقات فوقية لا ترتقي لأن تكون إنسانية. ومن ذلك الاستنقاص من قدر المرأة إهانتها “بنتك لا تعلمها حروف ولا تسكنها غروف” (لا تعلّم ابنتك ولا تُسكنها في غرف فاخرة).
ومثل هذة الأمثله لا يعدو أن يكون حسب الأستاذ فتحي الرقيق، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صفاقس سوى “ترجمة للسلطة الذكورية على النساء”، بحسب تعبير الأستاذ فتحي الرقيق، وهي “انعكاس للخشية من المنافسة في الفضاء العام”، كما ذهب إلى ذلك الأستاذ زهير بن جنات أستاذ جامعي في علم الاجتماع في ندوة تحسيسية حول الجنس والجندرة، نظمتها سنة 2019، جمعية “لاباس” للرعاية النفسية.
كل هذه الأمثلة التي يمليها المجتمع على المرأة والرجل هي نتيجة ثقافة توارثتها الأسر والعائلات جيلاً بعد جيل، حتى أصبحت قدراً مسلطاً على الطرفين وقانوناً لا يجب الخروج عنه.
من هنا “يغرس” الخلل في علاقتهما ببعضهما البعض، أفرز كمّا من المشكلات من عدوانية وعنف وانتقام، ولا يشذ الكتاب المدرسي عن بعض هذه القواعد، ليعيد إنتاجها في شكل بيداغوجي، يعتبر بالنسبة إلى الأطفال من المسلمات، بل مرجعا يصعب دحضه، حيث يوجد تأثير واضح في تكوين اتجاهات ومواقف المتعلمين نحو ذواتهم ونحو المرأة ونموذج الرجل خاصة في المستويات الأساسية والإعدادية والثانوية نظرا لطابعها الإلزامي في المدرسة التونسية، فنصوص القراءة التي تتحدث عن الحياة اليومية للأسرة تحدد للمرأة دورها فهي التي تقوم صباحا قبل بقية أفراد العائلة لإحضار فطور الصباح للزوج والأطفال، ومثال ذلك الصور الواردة بالصفحتين 21 و22 من كتاب مساراتي – كتاب القراءة لتلاميذ السنة الثانية من التعليم الأساسي.
وأينما وجهت وجهة بحثك عن أمثلة، إلا ووجدتها صارخة تصل حد بطاقة الهوية التي تفرق بين الرجل والمرأة في خانة المهنة فتكون “الشؤون المنزلية” للمرأة و”عامل يومي للرجل”، في حين أن كلاهما عاطل عن العمل. وكذا في الدراما التلفزيونية التي تكرس مثل هذة المسافات ريبية بين المرأة والرجل، في علاقات يشوبها العنف وانعدام الثقة والريبة والخبث و”تخديم المخ” في غالبيتها، وعن الضغط المهني ومتطلبات الأسرة، لا حاجة لنا بالتدليل عليها.
جعلت إدارة الوقت منفلتة من الرجل والمرأة، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار تواجدهما كامل اليوم خارج المنزل نتيجة لظروف العمل وأصبح الوقت المشترك بينهما مخصص للأكل والنوم وانعدم الوقت المخصص للحوار وتبادل الآراء، فالسيد نجيب الهمامي موظف بالبريد التونسي وأب لـ 0 أطفال، بالكاد يتبادل كلمة مع زوجته التي تعمل بمصلحة الإعلامية التابعة لوزارة الصحة، فلا وقت كاف للتواصل ولا للنقاش حتى في الأمور الأسرية، وإن حصل، فإنه لا يكون إلا في جو يفتقدان فيه التركيز والتعقل والحوار السليم بحكم الإنهاك الناتج عن طول ساعات العمل، وطبعا، ما من فرصة حسب نجيب للحديث عن المشاعر، رغم الود والحب الذي يجمعهما.
كشف الواقع المعيش عن خلل من نوع آخر يكمن في ذات الرجل نفسه والمرأة نفسها، فهي نراها متحررة ومدافعة عن حقوقها وقويا من الخارج “لتخفي”، امرأة بمواصفات قديمة موروثة اكتسبتها لتعزز الحاجة إلى قوة الرجل وإلى حمايته لها وحاجتها الى احتوائه لها، امرأة تتصارع مع نفسها ومع الرجل في آن واحد ليتحول إلى صراع ملكيّة وحيازة وليس صراع وجود من أجل شراكة حقيقية مع الرجل، ويعاني الرجل الانفصام ذاته بسعيه إلى التخلّص بالكامل من أبويّته وذكوريّته، ومن هذا الحمل الثّقيل الذي يجعله يخفي رقّته ويخاف من هشاشته وضعفه.
حالة مزاجية متقلبة للطرفين قد يكون سببها عوامل متعددة نفسية واجتماعية وثقافية، ولكنها في النهاية مربكة، لأن الشخصية المتقلبة تفسد الإحساس بالاستقرار، إن لم تعكس سلوكيات مراوغة، دون أن ننسى أن هؤلاء الرجال في الآن ذاته يمثّلون العدوّ التاريخي لهذه المرأة التي تنشد التحّرر وترغب في الانتقام لنفسها من عصور طويلة من القمع والتّحقير.
كما يحتاج الأمر إلى بحوث ودراسات منهجية ومعمّقة للتعرف على التغيرات المتسارعة في تصورات الرجال عن أنفسهم وتصورات النساء عن أنفسهن، وتصورات كل منهما عن الطرف الآخر، فالواقع تغير ويتغير وثمة تصورات مختلفة تتعلق بجوانب حيوية وحرجة للأدوار التقليدية للرجال والنساء، فنحن نعيش في واقع مختلف حتى لو ظل مغلفا بتصورات تقليدية أو نمطية.