إحالة للأرشيف

التكية السليمانية حكاية عمرها 450 عام في قلب دمشق

ميسون غزلان

في وسط العاصمة السورية دمشق، وإلى الغرب من ساحة الشهداء (المرجة) تقوم أروع عمارة عثمانية إسلامية ذات طابع دمشقي هي التكية السليمانية التي بناها السلطان سليمان القانوني عام 1554م، لتمتد على مساحة أحد عشر ألف متر مربع في مشهدية معمارية تجمع بين السحر والألق والوداعة، تظلل أطرافها أشجار الصفصاف والصنوبر، ويجري بردى شمالها، بينما يحدها من الجنوب نهر بانياس أحد فروع بردى. ومنذ بنائها وحتى اليوم تعتبر التكية السليمانية من أهم العمارات الإسلامية وأجملها في حاضرة الأمويين. أقيمت التكية السليمانية في مكان قصر الظاهر بيبرس (قصر الأبلق) الذي هدمه تيمورلنك، وهي من تصميم المهندس المعماري العثماني الشهير سنان باشا، وأشرف على بنائها المهندس الدمشقي العطار. وتتألف التكية من عمارتين غربية وشرقية، وقد أقيمت الشرقية على الطراز العثماني الاستانبولي، أما العمارة الغربية فتضم التكية، وهي محاطة بسور له ثلاثة أبواب رئيسية وصحن سماوي فيه بركة ونافورة جميلة، بينما بلط الصحن بالحجارة البيضاء والسوداء. أما الأروقة فمسقوفة بقباب صغيرة، ووراءها قباب أكبر تسقف غرفاً كبيرة. أما مسجد التكية الرائع فيقع في الجهة الجنوبية منها، ويتميز بمئذنتيه النحيلتين الرشيقتين، وهما متساويتان في الارتفاع والشكل، ويمثلان طرازاً جديداً في المآذن لم يكن معروفاً في دمشق قبل بناء التكية. أما الجهة الشمالية فتتألف من غرف كبيرة مسقوفة بالقباب وترتكز على أعمدة حجرية داخلية، وفي التكية سوق تجاري يتألف من 22 حانوتاً لتوفير احتياجات الحجاج وهم في طريقهم إلى مكة المكرمة. ويتضح من أقسام التكية الإسلامية أن وظائفها تتحدد في إقامة الشعائر والعبادة وإيواء وإطعام المساكين والفقراء وأبناء السبيل وتعليمهم، وكذلك توفير الإقامة والاستراحة للحجيج المسلم القادم من تركيا وآسيا الوسطى وأوروبا في طريقهم للحجاز. مسجد التكية يطل حرم المسجد على صحن التكية المشترك، وهذا الحرم مربع الشكل طول ضلعه ستة عشر متراً، تغطيه قبة عالية ذات قطر واسع، ولها عنق يضم عدداً من النوافذ التي يغطيها الزجاج المعشق، وتحمل القبة أربعة أقواس محمولة على أركان الجدران، وفي زواياها مثلثات كروية. أما واجهات الحرم من الخارج فهي مؤلفة من مداميك من الحجر الأبيض والأسود بشكل متناوب، وينفتح الحرم على الصحن بباب رائع الزخرفة تعلوه مظلة ضخمة محمولة على أعمدة ذات تيجان مقرنصة ملساء، وهذه المظلة مؤلفة من ثلاث قباب. وفي جدران الحرم نوافذ مطلة على الحدائق، وقد صنعت من الزجاج المقسى والملون بزخارف عثمانية رائعة، كما يتميز محراب الحرم بزخارف من الفسيفساء الرخامية، أما المنبر فهو من الرخام الأبيض، وتزين جدران الحرم لوحات فسيفسائية ملونة. وإلى الشرق من التكية تقع المدرسة، وفيها بناء مستقل لمسجد آخر خاص بها، يمتاز بزخارفه الوفيرة ورشاقة بنائه، وجمال بابه ونوافذه. وتشكل المدرسة والسوق مجموعتين مستقلتين ضمن التكية، وتستعملان اليوم سوقاً للفنون اليدوية. وفي التكية كانت هناك مساكن مخصصة للدراويش، ولا تزال موجودة، لكنها لم تعد تستخدم للإيواء. وهي تتألف من رواق سقفه من القباب المحمولة على الأعمدة، وفيه غرف، كل غرفة منها مسقوفة بقبة، وفي كل جناح ست غرف مربعة الشكل، وهي مزينة بألواح القيشاني، وتشغلها في الوقت الحاضر ورشات أعمال الحرف اليدوية التقليدية. روح حضارية تعبّر مباني التكية السليمانية عن تراث وثقافة دمشق المتعددة، والتي تلونت بروح حضارية ومعمارية وثقافية إسلامية شرقية أصيلة. ولعل أروع ما يميز التكية هي الزخارف التي تعلو أبوابها ونوافذها أو التي تزين جدران المسجدين فيها من الداخل على شكل سجاجيد، وهذه الزخارف مؤلفة من ألواح خزفية صنعت كلها في دمشق على شكل كتابات قرآنية وزخارف نباتية، اكتست باللونين الأزرق والأخضر وبعض اللون الأحمر الرماني الذي تمتاز به ألواح الخزف الدمشقي. وإذا كانت التكية السليمانية تعد من أهم الآثار العثمانية في دمشق، فإن التأثيرات الشامية واضحة فيها، بحيث يمكن القول: إن هذه الآية المعمارية نجمت عن وشائج، مزجت بين الإبداع السوري والمعمار العثماني. شغل جانباً من التكية السليمانية في القرن العشرين المتحف الحربي السوري، لكنه نقل مؤخراً من التكية، تمهيداً لعملية ترميم وصيانة شاملة لأقسامها جميعاً، بحيث تتجدد وتصبح مقصداً سياحياً بارزاً، لاسيما أنها تقع قبالة المتحف الوطني السوري.

بعد تأسيس الجامعة السورية في دمشق 1934 استخدم جزء من بنائها لتدريس طب الأسنان ثم استخدمت كمقر لمطبعة مجلة الشرطة المدينة وفي عهد الاحتلال الفرنسي استقرت فيها قوات الجنرال غورو كما استخدمت فيما بعد كمدرسة شرعية اسلامية في سنة 1948م لجأ إليها الفلسطينيون عندما أجبروا على النزوح من وطنهم .
تحولت اليوم إلى متحف حربي يضم عددا من القاعات المختلفة، وإلى سوق للصناعات اليدوية العريقة في دمشق مثل صناعة البروكار والموسلين والظاهري والحفر على الخشب وتطعيمه والصناعات الفضية والزجاج اليدوي وصناعة الصدف والعاج وغيرها وذلك منذ العام 1974م.
ومؤخرا تم نقل المتحف الحربي من التكية إلى مكان آخر.
الفعاليات والمعارض
تستضيف التكية في قسمها الشمالي العديد من الفعاليات والمعارض مثل معرض الزهور التخصصي والمعرض الدولي لفنون الطفل، ومعرض الحمّامات بعنوان ” الحمام مكان منسي ونعيم مخفي”، إضافة لبعض معارض المهن اليدوية التي تقام على هامش مهرجان طريق الحرير.
وتحدثنا الكاتبة جـمانـة صالح كيف تحولت التكية من دار عبادة الى معلم سياحي في قلب العاصمة دمشق من خلال بحث مهم جدا خاص بهذا المعلم وقد وثقته بالادلة والثبوتيات المستندة الى مراجع دقيقة فتقول :
عندما نتكلم عن التراث المادي, نقصد به مجموعة المباني ذات الأصالة والأهمية التاريخية التي ارتبطت بوجدان الإنسان, واستمرت عبر الزمن شامخة في مواجهة التغيرات المستمرة حولها زمنياً وبيئياً, وتفاعلت مع الإنسان حتى أصبحت جسداً واحداً، وعلامات التأثير والتأثر بين الدول والحضارات المختلفة لا تخضع لمقاييس الزمان والمكان، كما أنها لا تتسم بالجمود والثبات وتتراوح بين الإعجاب أو النفور وفقا للعلاقات بين الدول وموازين القوى.
سيطر العثمانيون على أغلب مناطق الوطن العربي واستمروا ما يقارب أربعة قرون (400 عام)، ونتيجة الاحتكاك بين الشعوب تأثرت البلاد العربية بالعثمانيين والعكس تماماً في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية.
وكان التبادل في جميع المجالات حتى طريقة البناء وطراز العمارة، والعادات والتقاليد، وتسلل بعض المصطلحات على اللغة، وإلى الآن تنتشر المباني العثمانية العريقة، ويفضل أهل الشام بناء مبانيهم على الطريقة العثمانية، حيث أن الدول العربية تأثرت بالطراز العثماني الإسلامي في بناء المباني الإسلامية من مساجد وتكايا وغيرها.
 لمحـة تـاريخيــة عن التكـايـا فـي العصـر العثمــانـي:
من الأمكنة الدينية المشهورة في الدولة العثمانية التكايا وهي التي يقال لها زوايا عند العرب، والتكية كما ذكرها د.عفيف بهنسي “هي بيوت يأوي إليها الصوفيون والدراويش للعبادة والدرس” وأكثر ما يسترعي انتباهنا في العهد العثماني إقامة التكايا بديلاً عن الخانقاهات حيث بنى العثمانيون التكايا على أسس متينة ومساحات كبيرة من الأرض وأدخلوا الهندسة الرومانية في بنائها وحبسوا لها الأوقاف الكثيرة للصرف عليها وصيانتها وتأمين جراية الدراويش المقيمين فيها وللصرف على طلاب العلم وموظفيها، ومنها التكية السليمانية في دمشق، وهي جزء من أهم ظاهرة شاعت وانتشرت مع بداية دخول العثمانيين دمشق عام 1516م بعد معركة مرج دابق، وكان البناء في البداية بسيط جداً ، ثم تطور بناء الخانات والتكايا حيث أصبحت باحاتها مسقوفة بالقباب أو العقود وعنيّ ببنائها وزخرفتها بالحليات المعمارية والحجارة الملونة، وانتشرت التكايا في البلاد العربية كطابع اجتماعي ـ ديني في ذلك الوقت أول من أوجد التكية السليمانية هو السلطان سليم الأول ثم السلطان سليمان القانوني وسار على منوالهما بعض الولاة العثمانيين والأثرياء.
سبب التســميـة:
سميت نسبةً إلى السلطان سليمان القانوني الذي أمر ببنائها عام 1554م في الموضع الذي كان يقوم عليه قصر الظاهر بيبرس المعروف باسم “قصر الأبلق” في مدينة دمشق الذي هدم زمن تيمورلنك ، التكية بناء متكامل يضم مسجداً ومتحفاً وسوقاً للمهن اليدوية والتراث ومدرسة، وبالتركية تسمى”Tekkiye camii”،وذكر في خطط دمشق أن التكية السليمانية بنيت في دمشق على مثال التكية السليمانية في القسطنطينية (استانبول) مكان القصر الأبلق في شرق المرج الأخضر المعروف بميدان ابن اتابك بين نهري بانياس وبردى واستمرت العمارة ستة سنوات وكان هذا النوع هو بدعة العصر الذي كان رائده المهندس الكبير سنان باشا.
– البنـاء وأهــم معــالمهـا وطــــرازهــا:
تعدّ التكية السليمانية من أهم الآثار العثمانية وهي من تصميم المعماري التركي المعروف “سنان باشا” الذي كان يرافق السلطان سليمان في حروبه، حيث أشرف على بنائها المهندس الإيراني الأصل ملا آغا إضافة للمهندس الدمشقي العطار، وأبرز ما يميز طراز التكية السليمانية مئذنتاها النحيلتان اللتان تشبهان بالمسلّتين أو قلمي الرصاص لشدة نحولهما وتعلوهما قمع مخروطي من الرصاص، وهو طراز لم يكن مألوفاً في دمشق حتى تلك الحقبة، بالإضافة للزخارف التي تعلو الأبواب والنوافذ وجدران المسجدين من الداخل على شكل سجاجيد، هذه الزخارف مؤلفة من ألواح خزفية صنعت كلها في دمشق وهي ذات مواضيع زخرفية نباتية وكتابات قرآنية بلونين الأزرق والأخضر وبعض اللون الأحمر الرماني الذي امتازت به ألواح الخزف الدمشقي و التي يميزها عن الخزف التركي، بدأ بناء التكية فعلياً عام 962هـ /1554م واكتمل بناؤها 967هـ ونميز فيها ستة مباني قد توزعت حول صحن واسع ثلاثة في كل من جزأيها الشمالي والجنوبي، وهي شبه مستقلة عن بعضها، والمشترك بينها الطراز المعماري والشكل العام المتمثل في الواجهات وفي الأروقة المطلة على الصحن، والقباب التي هي أداة تسقيف في كل مكان، بالإضافة إلى تناوب اللونين الأبيض والأسود في الجدران والأقواس، وتميزت المباني الإسلامية بالقباب ففي الطراز العثماني كانت القباب على شكل نصف دائري غير كامل إلا أنها كانت عالية ومتعددة في الجامع الواحد وذات أعناق ولها نوافذ، واعتبرت القباب وسيلة للتسقيف التي امتازت بها العمارة العثمانية وهو سبب إنشائي وجمالي لإضفاء الرتابة والرشاقة للمبنى.
ويشاهد الداخل إلى دمشق من الغرب “مجموعة عمرانية فخمة تحتل على ضفة بردى اليمنى مساحة من الأرض الواسعة، تلفت الأنظار بقبابها المنتظمة كالعقد حول قبة رئيسية كبيرة، يحيط بها مئذنتان ممشوقتان يتخلل البناء حدائق وأشجار باسقة يمتزج جمالها بمحاسن العمارةفيجعل من هذه البقعة في دمشق من أجمل البقع وأكثرها جمالاً” (17) تضم التكية قسمين:
* التكية الكبرى بناء ضخم يقع بجهة الغرب، وتتألف من مسجد في الجهة الجنوبية ومدرسة ويحيط بها سور ويقع مدخلها الرئيسي في جهة الشمال، تعلوه قبة محمولة على أعمدة، داخلها صحن سماوي وبركة ونافورة جميلة والصحن مبلط بالحجارة البيضاء والسوداء بشكل متناوب كما حال الجدران، وهو طابع مملوكي حيث أن السلطان سليمان القانوني أعاد استعمال حجارة قصر الأبلق في بناء التكية، ويتصل الصحن بباب آخر يفتح على لسوق والمدرسة، ولقد غطت الحدائق والأشجار جميع الفراغات بين الأبنية التي تتقدمها أروقة مسقوفة بقباب منخفضة وخلفها قاعات مسقوفة بقباب مماثلة أكثر ارتفاعاً.

  • التكية الصغرى بجهة الشرق أقيمت على الطراز العثماني، وهي بناء مستقل تتألف من حرم للصلاة وباحة واسعة تحيط بها أروقة وغرف تغطيها قباب متعددة، ويقع سوقها التجاري شمال المدرسة، ويتكون من مجموعة من الحوانيت التي تساعد الحجاج على شراء ما يحتاجونه في طريقهم إلى بيت الله الحرام ويقسم إلى صفين غربي وشرقي بطول 85 متراً من كل جانب، وكل جانب يضم 22 محلاً مغطاة بقباب طولية غالبيتها ما تزال موجودة، والبعض الآخر أزيل خاصة في الجزء الشمالي الشرقي بسبب بناء دار المعلمين سابقاً، ثم معهد للحقوق عام 1923م، وبعدها توالت على المبنى وزارة المعارف ومديرية تربية دمشق وحالياً وزارة السياحة.
    دورهـــــا الاجتمـــاعـي قـــديمـــاً وحـديثـــــاً:
    دورها الاجتماعي قديماً:
    التكية كلمة تركية موازية للخانقاه والزاوية، وكلمة تكية غامضة وفيها اجتهادات، فبعضهم يرجعها للفعل العربي (اتكأ) أي استند واسترخى مما يعني أنها كانت مكان للاستراحة، ويعتقد البعض خاصةً المستشرق الفرنسي (كلمان هوار) مأخوذة من الفارسية بمعنى (جلد) لأن شيوخ الصوفية كانوا يجعلون من جلد الخاروف أو غيره من الحيوانات شعاراً لهم، والواقع أن التكية أخذت تؤدي الوظيفة نفسها التي كانت تقوم بها الخانقاوات، وكانت مخصصة للعبادة من المتصوفة، وخلال العصر العثماني الذهبي قامت بتطبيب المرضى وعلاجهم وهو دور تقوم به البيمارستانات في العصر الأيوبي والمملوكي، حيث أهملت البيمارستانات في العصر العثماني وأضيفت مهمتها للتكية وكان القصد من بناء التكية السليمانية إيواء الطلبة الغرباء وإيجاد مكان فسيح ومتسع يستقر فيه الحجاج الأتراك، وتقام فيه الأسواق خارج المدينة المزدحمة وعين فيها ما ينوف على مائة موظف بين مدرس ومقرئ وإمام وطباخ.

ومن اختصاصات التكية في تلك الحقبة الزمنية “من اختصاصاتها تعليم القرآن وتقديم الوجبات من الطعام للفقراء والمحتاجين، وأصبح بعضها مأوى للفقراء واليتامى وأبناء السبيل والطارئين، ووصل عدد الصوفية فيها أحياناً إلى (300) صوفي لكل واحد منهم عدد من أرغفة الخبز وكمية من اللحم والمرق والحلوى والصابون والكسوة، ثم تطور دور التكايا لاحقاً، وأصبحت خاصة بإقامة العاطلين من العثمانيين المهاجرين من الدولة الأم والنازحين إلى الولايات الغنية مثل مصر وبلاد الشام، ولهذا صح إطلاق لفظ (تكية) ومعناها مكان يسكنه الدراويش وهم طائفة من الصوفية العثمانية، وأغراب ليس لهم مورد رزق، وأوقفت الأوقاف على التكية وصرفت لها الرواتب الشهرية، لذا سمي محل إقامة الدراويش والتنابلة بالتكية لأن أهلها متكئون في أرزاقهم على التكية وكانت التكايا تقوم بمهام دينية واجتماعية حتى مطلع القرن العشرين، وكان مدرسوا هذه التكية ونظارها يعينون من استانبول، وقد هدمت التكية بفعل زلزال أصاب دمشق فقام الدفتردار (فتحي القلانسي) عام 1159هـ/ 1746م بتجديد مناراتها، وكان ينزل فيها الجنود العثمانيون المارون في دمشق وتميزت التكايا بإيواء الدارسين والفقراء والغرباء ورعايتهم مادياً وغذائياً، ومن العادات المعروفة صرف (الجراية) عليهم بعدد أرغفة محددة لليوم الواحد والطعام موحد، وربما مصروف لليد، وأغدق الأغنياء والتجار والأشراف أموالهم على هذه التكايا كمظهر للتكافل الاجتماعي، فالتكية عبارة عن مدرسة تنتمي إلى فصيلة المباني الدينية ولها وظيفة أساسية هي إقامة الشعائر وفرائض العبادة مما جعلها مكاناً للمتصوفة ينقطعون فيها ويأمنون الخلوة للدعاء والصلاة، والهدف الرئيسي من بنائها إيجاد مكان للحجاج القادمين من تركيا وآسيا الوسطى وأوروبا في طريقهم للديار المقدسة في موسم الحج، وكان مكانها قصر الإمارة للفاطميين وبني مكانه قصر الأبلق قصر الظاهر بيبرس، وليكون مقراً لإقامة طلاب العلم.
_ ويصف كارل ولتيجنر في كتابه الآثار الإسلامية في مدينة دمشق دور التكية السليمانية الاجتماعي لقد حددت الرغبة في تأمين الإقامة الطبية والاستراحة اللطيفة للحجاج والطلبة إلى العناية الزائدة بهندسة الحدائق في التكية حيث ينعكس المظهر الخفيف والجو الطليق للبناء مما يعطي راحة نفسية، وقد بذلت عناية بالناحية اللونية أكثر مما يتطلبه التعبير الفني العثماني، وإن دل هذا على شيء إنما يدل على أن العثمانيين قدموا تنازلاً معيناً لأهالي دمشق الذين اعتادوا على التزيين اللوني.

وفي لقاء أجريته مع شيخ جامع التكية الصغرى أبو جهاد (خالد مصباح السقا) قال “أنشأت التكية السليمانية من قبل العثمانيين، في البداية كانت الغرف الموجودة في التكية الصغرى لإقامة الجنود العثمانيين ومنامتهم، والمحلات الصغيرة في السوق كانت مرابط للخيل، بعد فترة من الزمن أصبحت التكية تابعة للأوقاف العثمانية لإطعام الفقراء والدراويش ومن لا يملك مكاناً يقطن فيه وللمسافرين من المحافظات، يتناولون وجباتهم وينامون مجاناً، وسميت التكية من فعل (اتكأ) وهي من الانتظار، حيث كان قاطني التكية ينتظرون وجباتهم دون عمل أو جهد، ويأتي شخص يسكب لهم وجباتهم،ومنها انتشر مصطلح (فاتحلك تكية) وبالنسبة للبناء يتابع أن العمارة العثمانية في التكية كانت مدروسة الأبعاد حيث قيست أساساتها التي بلغت سبعة أمتار داخل الأرض للحفاظ على البناء من الانهيار، ويعتبر البناء مقاوم للزلازل تقريباً من أجل سلامة قاطني التكية”.
وغالباً ما كانت التكايا تبنى من قبل رجال الدولة أو ذوي اليسر لتكون مجمعات دينية لإيواء الفقراء المنقطعين للعبادة، وللنفع العام أيضاً لكل محتاج وعابر سبيل لا يملك تكاليف الإقامة في الخانات، فيقدم له الطعام والشراب واللباس إن كان محتاجاً إليه، وكانت معنية بتأمين الطعام والشراب للأسر الفقيرة ممن يجاورونها بغض النظر إن كانوا أتباع الطريقة التي ينتمي إليها المقيمون في التكية أم لا، وبذلك لعبت التكايا دوراً في التكافل الاجتماعي.

وفي لقاء أجريته مع رئيس لجنة الشعب المهن التراثية في دمشق وعضو لجنة في سوق المهن اليدوية وشيخ الكار حرفة الرسم النباتي على الخشب (عرفات سلمان أوطه باشي) قال:”كانت التكايا لها هدف كبير لأجل رحلة الحج أو الانتقال من مكان لآخر ولا تسمح حالتها المادية للنزول بالخانات حيث كانت تسمى الفنادق بالخانات، أو أحياناً نقص بالطعام أو تعرض القافلة لقطاع الطرق وسرقة الأموال والزوادة والبضائع ويكونوا شبه مقطوعين، وبكل مدينة فيها تكايا في العهد العثماني، وألحق فيها مدرسة للعلم، وغرف لنومة القاطنين، وفي الخارج محلات صغيرة لربط الخيل حيث بكل محل كان يوجد حلقة كبيرة لربط الخيل، والمحلان اللذان يوجدان في التكية الصغرى هما عبارة عن مطبخ لإعداد الطعام، فالتكايا كانت تجمع طبقة الدراويش والصوفية الذين يريدون اعتزال الدنيا وتعلم أمور الدين، حيث يوجد أمكنة للسكن وللعلم ووللصلاة والعبادة، فدورها اجتماعي علمي وإنساني في نفس الوقت بالإضافة دور للعبادة حيث عدّ المسجد القوة السياسية في تلك الفترة من كونه مكاناً تتخذ فيه القرارات، أما المدرسة همشت وأغلقت لفترة طويلة خاصةً بعد الاحتلال الفرنسي”.
فقد كانت التكايا ذات هدف تربوي تعليمي من خلال اجتماع مريدي الشيخ حوله، وإقامة حلقات التدريس، بالإضافة إلى حلقات الذكر والموسيقى والاحتفالات الدينية، فكانت التكية الصغيرة تسمى (دركاه) والكبيرة (آستانة) لكل منها شيخ، وبما أن من وظائفها تقديم وجبات الطعام للفقراء والمساكين والمسافرين مجاناً لذلك أقيمت معظمها على الطرق وخارج سور دمشق القديم، وعلى طرق الحج من حلب إلى جنوب دمشق، ومع اضمحلال المدارس في العهد العثماني انتعشت التكايا وازداد عدد الصوفية والدراويش، وتدخلت الدولة العثمانية في طرق التدريس ونوعية الشيوخ المختارين للزعامة، وبعد الحرب العالمية الأولى عام 1914م حظر أتاتورك الشعائر الدينية فهدم الكثير من التكايا وحول بعضها إلى متاحف ومؤسسات عامة وأغلق الباقي.

_ دورهـــــا الاجتمــاعـــي حــديثـــاً:
ولأن دمشق توأمة التاريخ منذ ولادته ومخزن أسراره، أصبحت تجذب السيّاح من كل حدب وصوب، فكان جديراً بمديرية الآثار والمتاحف وبوزارة الثقافة ووزارة السياحة الاهتمام الذي نلحظه اليوم للآثار والمباني القديمة والأحياء الدمشقية، “فقد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بعملية مسح أثري شامل لجميع المباني التاريخية والتلال الأثرية فقد كان عددها (2980) مبنى أثري عام 1997م ومن الأوابد التي حظيت بهذه الرعاية كانت التكية السليمانية.
التكية السليمانية أصبحت فيما بعد داراً للمعلمين، ثم معهداً للحقوق عام 1923م، وبعدها توالت على المبنى كل من وزارة المعارف ومديرية تربية دمشق، وحالياً وزارة السياحة، وبعد تأسيس الجامعة السورية في دمشق عام 1934م استخدم جزء من التكية لتدريس طب الأسنان، ثم استخدمت كمقر لمطبعة مجلة الشرطة، وفي عهد الاحتلال الفرنسي استقرت فيه قوات الجنرال غورو، كما استخدمت فيما بعد كمدرسة شرعية اسلامية، في سنة 1948م لجأ إليها الفلسطينيون عندما أجبروا للنزوح من وطنهم، وفي منتصف الخمسينيات أقيم إلى جانب التكية متحف حربي يمثل تطور مختلف أنواع الأسلحة، إلى أن تم تفريغها منذ عدة سنوات بقصد ترميمها بالاتفاق مع الحكومة التركية، وتستخدم حالياً لإقامة المعارض الفنية والهندسية، حيث أقيم فيها معرض للعمارة التركية في عام 2009م وهو معرض يضم أربعين لوحة من أبرز المعالم التاريخية والمعمارية (سورية وتركيا والعالم) ومن بينها لوحة للتكية السليمانية،يعتبر الأسلوب الفني للتكية حصيلة نهائية للتطور السلجوقي العثماني، وهو يتناقض تناقضاً صارخاً مع التقاليد الفنية الشامية التي لم تعرف في الغالب إلاّ الأقواس المدببة أو الحدوية نوعاً ما وهذا سبب جبها للسيّاح حتى من أهل دمشق، أما دكاكين السوق في الجناح الجنوبي “فقد رممت وتحولت مع المدرسة  إلى سوق للمهن اليدوية لتلبية المتطلبات السياحية.
 
 
 

منذ بداية السبعينات أصدر السيد الخالد حافظ الأسد قراراً بفتح التكية لكن وظفت بمنحى آخر وهو افتتاحها كسوق للمهن التراثية للحفاظ على الحرف التراثية التي تشكل التراث المادي والغير المادي من التراثي السوري،وعندما يأتي أي سائح للتكية يأخذ قطعة من تراث هذا البلد كتذكار، حيث تعرف البلد من خلال القطعة التي اقتناها، فدورها الاجتماعي حالياً هو السياحة ومكان للحفاظ على التراث المادي والغير مادي، والتكية استهوت السيّاح والوفود الرسمية وطلاب الجامعة، حيث استقطبت من أعلى المستويات لأدناها من فئات الشعب، وتستقطب الوفود الرسمية في أعلى مستوياتها وتكون أحد الأماكن المستهدف زيارتها الجامع الأموي والتكية السليمانية، وحتى استهوت الطلاب بكل فئات العمر فمعظم الرحلات المدرسية للمتحف الحربي والتكية السليمانية، واعتبر التكية السليمانية تاريخ وهوية للمواطن السوري، وهي ليست مجرد مكان إنما هي أعرق مكان على مستوى الشرق الأوسط لأنه نتيجة الأزمة لم يبقى سوى هذا المكان التراثي للحفاظ على الهوية السورية، ومن خلال عدة لقاءات مع بعض زوار التكية السليمانية فكانت آرائهم حول دور التكية السليمانية وسبب قدومهم وزيارتهم لها” تقول أحد الزائرات: ” أقصد التكية منذ أربع سنوات وتعرفت على أصدقائها في التكية وتزور التكية باستمرار لأنها تشعر بالارتياح النفسي، والبعض يقصدها لأنها تسحب الطاقة السلبية حيث تأتي مهمومة ومكتئبة فتقصد التكية للراحة النفسية، وتتمنى البقاء فيها وأول مكان يخطر على بالها هو التكية الذي يعتبر أول محطة للقاء الأصدقاء.

ســوق المهن أعاد إحيـــاء التكيــة السـليمانيـة:
افتتح سوق المهن اليدوية في التكية الصغرى للحفاظ على التراث الوطني، حيث عدّ الطربوش الأحمر والطرحة والشروال الساتان والمخمل والقطنيات والأغباني والتطريز جزء مهم من الهوية الثقافية السورية، والتي أصبحت تعرف حول العالم كله بأنها مرتبطة بسورية وشكلت ملامح الحياة فيها، حيث يتمتع المنتج السوري بالأصالة والدقة في التصنيع، وعانى نتيجة الظروف الأخيرة للكثير من الأضرار التي أخرجت الكثير منه خارج الخدمة، لذا سعى المجتمع المحلي بالتعاون مع جهات حكومية على إطلاق مشروع يساهم في توثيق الأضرار وإعادة الحياة لبعض المهن عبر إنشاء سوق يدعى (أبهة) في التكية السليمانية في دمشق لدعم الحرفيين، أبهة هو مشروع تم افتتاحه عام 2015 من قبل الأمانة السورية للتنمية والشركة السورية للحرف لتعود الحرف بأبهى حللها، ودعم المنتجات الحرفية السورية والارتقاء بها، من خلال تحويلها إلى منتجات عصرية بعيداً عن كونها مهملات أو أشياء قديمة، إضافة لدعم الحرفيين المتضررين خلال الأزمة السورية، وخلق فرص عمل جديدة لهم حتى لا يتخلوا عن حرفهم، ومن خلال اتفاقية مع وزارة السياحة افتتحت عدة محلات في التكية لعرض منتجاتها.

 
–  إجراءات وخطة عمل وزارة السياحة السورية للحفاظ على المعلم
– ترميم التكية السليمانية بحيث الإبقاء على حالة البناء والحفاظ على الأشكال الهندسية الظاهرة، لما في ذلك من أهمية في الحفاظ على هوية البناء التاريخية والفنية، أي تناسب عملية الترميم مع طبيعة المنشأ التاريخية والمعمارية والوظيفية. 2- تعتبر التكية السليمانية من الآثار ذات القيمة التاريخية، لذا يجب احترامها، وحصر التغيرات في أضيق الحدود.
– يجب استخدام المواد والتقنيات القديمة في الترميم، ليس فقط لحفظ القيمة التاريخية وإنما هو اعتراف بكفاءة هذه المواد وملاءمتها للاستخدام الأصلي من حيث الاحتفاظ بالشكل واللون والتفصيل، والتغير الوجداني الذي يطابق الحقيقة التاريخية ولا يؤدي إلى تزييف الشواهد الفنية مع الاحتفاظ بالمحيط التاريخي.
– صيانة التكية السليمانية وترميمها يجب أن تستعين بكل العلوم والأساليب التقنية لحماية التراث المعماري
– لقد بقيت التكية السليمانية مقصداً مهماً لكل زوار دمشق سواء قاصدي المتحف الحربي أو سوق المهن التقليدية، إلا أن نقل المتحف الحربي من التكية قبل عدة أشهر وارتفاع أسعار معروضات السوق الذي برره أصحاب المحلات بتزايد الضرائب المفروضة عليهم أفقدا التكية عنصراً مهماً من عناصر الجذب مما أدى إلى تراجع أعداد روادها ومن الجيد أن الجهات الآثارية العربية انتبهت في السنوات الأخيرة إلى قيمة هذه التكايا فعمدت إلى ترميمها وتحويلها إلى متاحف واعتبارها أمكنة محمية بقوانين الحماية الآثارية لتبقى هذه الأماكن تحكي عن التكافل في المجتمع الإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى