[ الصفحة الأولى ]كتّاب وآراء

دكتور قاسم زكي يكتب: عبقرية الهوية في حضارة مصر القديمة..الذات التي صنعت الخلود

عبر أكثر من ثلاثة آلاف عام، لم تتغير ملامح الحضارة المصرية القديمة بشكل جذري، ولم تذُب في ثقافات الغزاة أو تتلاشى في تقلبات الزمان. ما سرّ هذا الثبات؟ وكيف حافظ المصري القديم على خصوصيته الثقافية والحضارية؟ الإجابة تكمن في مفهوم عميق ومركزي: الهوية.

فهوية مصر القديمة لم تكن مجرّد شعور بالانتماء، بل منظومة متكاملة من الفكر، واللغة، والرمز، والطقس، والمكان، والتاريخ، واللغة، والدين. عبقرية المصريين القدماء أنهم لم يبنوا دولة فقط، بل بنوا ذاتًا جماعية لها ملامح راسخة تُحسّ وتُرى، وتستعصي على الذوبان.

 أولًا: الأرض… حجر الزاوية في الهوية

شكلت أرض مصر محورًا رئيسيًا في تشكل الهوية. لم تكن الأرض مجرد مجال زراعي، بل كانت “كيانًا حيًا”، مرتبطًا بالنيل والفيضان والفصول. وكان المصري يرى في أرضه مهد الحياة، وموطن الآلهة، ومسرح الخلق والبعث.

عبّر المصريون عن ارتباطهم بالأرض من خلال أسماء الأقاليم، والرموز النباتية (زهرة اللوتس للجنوب، والبردي للشمال)، كما قدّسوا النيل وأطلقوا عليه “إيتروعا” (النهر العظيم)، وكان الاحتفال بفيضان النيل طقسًا وطنيًا عامًا.

 ثانيًا: اللغة والكتابة… سلاح الدفاع عن الذات

كانت اللغة المصرية القديمة (والكتابة الهيروغليفية خاصة) وسيلة ترميز للهوية. لم تكن فقط نظامًا للتواصل، بل أداة لحفظ الذاكرة الجمعية. كتب المصريون على جدران المعابد، وعلى البرديات، وفي المقابر، كل ما يعكس فكرهم وشعورهم ومعتقداتهم.


ولم تتغير البنية الأساسية للغة المصرية رغم التحولات السياسية، بل تطورت من الهيروغليفية إلى الديموطيقية ثم القبطية، مع احتفاظها بجذورها الأصلية. وهذا الاستمرار اللغوي يبرهن على تمسك المصريين القدماء بهويتهم حتى مع موجات التأثير الخارجي.

 ثالثًا: الدين… بنية الهوية العميقة

تُعد الديانة المصرية القديمة من أقوى عناصر الهوية، لأنها شكّلت الوعي الجمعي وربطت بين الفرد والمجتمع والكون. آمن المصريون بفكرة “الماعت” (Ma’at) التي تعني النظام والعدالة والتوازن، واعتبروها أساس الحياة الفردية والسياسية والكونية.
لم يكن الدين طقسًا عابرًا، بل فلسفة وجود. فكل شيء في حياة المصري يخضع لنظام إلهي: الزراعة، الموت، السلطة، وحتى النجوم. هذا الإيمان العميق أنتج هوية روحانية أخلاقية، راسخة لا تزعزعها تغيرات الحكم أو الزمان.

 رابعًا: الرموز… مفاتيح الذاكرة الجماعية

امتلأت الحضارة المصرية برموز شديدة الخصوصية والوضوح:
• الصقر (حورس): رمز الملكية والحماية.
• عنخ (☥): رمز الحياة الأبدية.
• الجعران: رمز البعث والتجدد.
• اللون الأبيض: رمز النقاء، وارتبط بالتاج الملكي للوجه القبلي.
تلك الرموز لم تكن زينة شكلية، بل شفرات للهوية، يفهمها المصري ويستشعرها ويعيش بها، سواء في الجداريات أو الملابس أو أدوات الحياة اليومية.

 خامسًا: السلطة… هوية الدولة المركزية

تميّزت مصر بهوية سياسية واضحة منذ عهد الملك “مينا” بتوحيد القطرين، مما أوجد شعورًا بالوحدة والانتماء لكيان مركزي اسمه “كِمِت” (الأرض السوداء). كانت مصر تُرى كوحدة روحية وإدارية، تُحكم من ملك يُعتبر “ابن الإله رع”، وتخضع لقوانين كونية واجتماعية.

الملك لم يكن مجرد حاكم، بل تجسيد للهوية العليا للدولة، يُلبس تاجين (الأحمر والأبيض) للدلالة على توحيد الأرض، ويقوم بدور ديني وسياسي في آنٍ واحد، مما يعمّق فكرة الدولة ذات الذات الواحدة.

 سادسًا: الفن والعمارة… ذاكرة الذات المتجسدة

الفن المصري القديم لم يكن تجريديًا أو عبثيًا، بل فنًّا وظيفيًا يخدم الهوية. فالتماثيل والمقابر والمعابد وُضعت في سياق رمزي محدد، يخدم تصور المصري عن نفسه والكون.

الأهرامات، مثلًا، لم تكن مجرد مقابر، بل تجسيدًا لهوية خالدة، تنطق بالتنظيم والدقة والخلود. كما أن الجداريات كانت نوعًا من “السيرة الذاتية الجماعية”، تسجل أفعال الإنسان وارتباطه بالقيم العليا، كالممات والبعث والخلود.

 سابعًا: الزي والاسم والطقس… تفاصيل تصنع الذات

كان لكل مصري اسمه الذي يحمل بعدًا دينيًا أو اجتماعيًا (مثل “سخم رع”، “با نفر”)، كما كان يرتدي زيًا يعكس طبقته ومهنته ومكانته. المرأة، مثلًا، كانت تُصوّر بملابس دقيقة، وتسريحات مميزة، وأحيانًا بتيجان رمزية، تعكس دورها المحوري في الأسرة والدين، أما الطقوس، مثل حفلات الميلاد أو الأعياد الدينية أو طقوس الدفن، فكانت تُعيد صياغة الهوية بشكل دوري.

 ثامنًا: الآخر… وعي الذات عبر المقارنة

كان المصري يعرّف نفسه من خلال تمايزه عن “الآخرين” (الليبيين، النوبيين، الآسيويين). وتُظهر النقوش هذه الشعوب بملابس وهيئات مغايرة، مما يشير إلى إدراك المصري لخصوصيته. ولكن هذا الوعي لم يكن عنصريًا بقدر ما كان دفاعًا عن ذات حضارية متميزة.

وقد مارست مصر سياسة استيعاب للثقافات الأخرى دون أن تفقد هويتها، فحين حكمها الفرس ثم اليونان ثم الرومان، احتفظت بمعتقداتها ورموزها ولغتها في المعابد والمجتمعات المحلية.

 خاتمة:

إن عبقرية الهوية في حضارة مصر القديمة تتجلى في قدرتها على البقاء والتجدد، رغم العواصف والاحتلالات والتحولات. لم تكن الهوية شعارًا، بل نظام حياة، وأسلوب تفكير، وفن تعبير، وإيمان بالخلود. ولهذا لم تمت مصر القديمة، بل بقيت حية في وجدان أبنائها ودهشة زوارها، تشهد أن من امتلك الوعي بذاته، لا يُقهر.

 

كاتب المقال: أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثيةبأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، وأحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى