سحر سليم ترد على “ديلي ميل”: الهوية المصرية جسر ممتد بين الماضي والحاضر
د. عبد الرحيم ريحان

نشر موقع “ديلي ميل اونلاين” البريطاني دراسة علمية تشير إلى أن قدماء المصريين ربما كانوا من اصول أجنبية وتحديدًا من العراق في بلاد الرافدين حيث قام فريق من جامعة ليفربول جون مورز باجراء تسلسل للحمض النووي لرجل عاش في مصر القديمة قبل نحو 4495 الى 4880 عامًا في بداية عصر الدولة القديمة والمعروفة ببناء الأهرامات حيث اكتشفوا وجود صلة وراثية بحضارة بلاد الرافدين التي ازدهرت في العراق القديم والمناطق المحيطة به.
وقد استخرج الفريق الحمض النووي من أسنان الرجل التي بقيت محفوظة إلى جانب هيكله العظمي في وعاء جنائزي مغلق في منطقة النويرات في محافظة سوهاج بالقرب من بني حسن حيث تبين أن أربعة أخماس الجينوم مرتبط بشمال أفريقيا والمنطقة المحيطة بمصر وخمس الجينوم أظهر روابط بالمنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات والمعروفة باسم الهلال الخصيب.
وفى ضوء ذلك عرضت حملة الدفاع عن الحضارة المصرية برئاسة الدكتور عبد الرحيم ريحان هذا التقرير على الدكتورة سحر سليم أستاذ الأشعة بكلية الطب جامعة القاهرة، عضو مشروع دراسة المومياوات المصرية بوزارة السياحة والآثار والتى أوضحت أن هذا الهيكل دُفن داخل جرة فخارية كبيرة داخل مقبرة منحوتة في الصخر وهو نوع من الدفن يدل على مكانة اجتماعية عالية ربما كان رجلاً ذا حرفة أو دور مهم في المجتمع.
أكتشف هذا الهيكل عام 1902 أي منذ أكثر من قرن ونُقل لاحقًا إلى جامعة ليفربول في المملكة المتحدة لكن التقنيات الحديثة فقط هي التي سمحت اليوم بتحليل الحمض النووي الخاص به وتحديدًا من قاعدة الأسنان وهي من أكثر الأماكن قدرة على حفظ المادة الجينية.
وهذا إنجاز ضخم لأن الحمض النووي لا يُحفظ بسهولة في مناخ حار مثل مصر لذلك استخراج جينوم كامل في مثل هذه الظروف يُعد تحديًا علميًا كبيرًا فبعض الدراسات السابقة حصلت على خريطة الجينوم المصرية القديمة من المواد الوراثية لعدة أشخاص مجتمعين و ليس من شخص واحد.
وتضيف الدكتورة سحر سليم أستاذ الأشعة بكلية الطب جامعة القاهرة أن التحاليل والإشعات أظهرت أن هذا الرجل كان يبلغ من العمر حوالي 64 عامًا عند وفاته وهو عمر كبير نسبيًا في ذلك الزمن كان طوله حوالي 160 سنتيمترًا ويُعاني من التهاب المفاصل وتآكل في المفاصل والعظام وخصوصًا في العمود الفقري والركبتين مما يدل على مجهود بدني كبير ربما في مجال الأعمال اليدوية.
كما تبيّن وجود خُرّاج في الأسنان وهو ما كان يُمكن أن يسبب له ألمًا شديدًا وربما تهديدًا لحياته وهذا يعكس دور الإشعات والتحاليل في إلقاء الضوء على حياة الإنسان الذي عاش من آلاف السنين وأوضحت التحاليل أن غذاء الرجل متنوع من البروتين النباتي والحيواني وأسماك النيل.
ونوهت الدكتورة سحر سليم إلى أن الصفات الجينية أظهرت أن لون عينَيه بنّي وبشرته بنّية أيضًا وهي صفات تشبه كثيرًا شكل المصريين المعاصرين، وأن واحدة من أبرز النتائج هي أن التركيب الجيني لهذا الرجل يرتبط بسكان مصر وشمال إفريقيا في العصر الحجري الحديث وهذا يؤكد أصالة الحضارة المصرية القديمة.
وتوضح الدكتورة سحر سليم النتائج وهى أن التركيب الجيني لهذا الرجل يرتبط بسكان مصر وشمال إفريقيا في العصر الحجري الحديث وهذا يؤكد أصل حضارة مصر القديمة إلى أهلها كما أوضحت دراسات سابقة وجود استمرارية تاريخية بين المصريين القدماء والمعاصرين أي أن هناك رابطًا جينيًا عميقًا عبر آلاف السنين.
كما أظهرت البيانات وجود نسبة صغيرة من الأصول الجينية متشابه مع منطقة الوادي الخصيب في بلاد الشام و تركيا مما يدل على أن المصريين القدماء كانوا على تواصل مع جيرانهم في تلك الفترات سواءً من خلال التجارة أو الهجرة أو التبادل الثقافي.
وتؤكد الدكتورة سحر سليم أن المعطيات تُدحض بعض الادعاءات الخاطئة مثل تلك التي تروّج لها بعض التيارات الأفروسنتريك والتي تزعم أن قدماء المصريين كانوا من أصول أفريقية جنوب الصحراء الكبرى والأدلة هنا تُظهر أن المصريين القدماء كانوا فريدين جينيًا بجذور شمال أفريقية واضحة مع بعض التأثيرات الإقليمية لكنهم لم يكونوا مطابقين جينيًا لسكان جنوب الصحراء او لأي جهة عرقية في أوروبا.
ولفتت الدكتورة سحر سليم إلى أن هناك محاذير في التفسير و استباق النتائج لكن من المهم التأكيد على أن هذه النتائج تستند إلى شخص واحد فقط، لذلك لا يمكننا تعميم هذه النتائج على كل الحضارة المصرية القديمة، ونحتاج إلى دراسات جينية أوسع تشمل عينات من مناطق وفترات زمنية مختلفة و عمل قاعدة بيانات.
ومع ذلك تبقى هذه الحالة خطوة مهمة في فهمنا للجينات المصرية القديمة وتفتح الباب أمام مزيد من الأبحاث ويجب التأكيد على أن الحضارة المصرية والهوية المصرية ليست مجموعة من الجينات بل مزيج أصيل من تراث ثقافي وموروثات حضارية و فنية ولغوية وتقبلت مصر الوافد ولكن صهرته في بوتقتها ليظل الإنسان المصري متفردًا ومتصلًا بميراث الأرض منذ آلاف السنين.
وتختتم الدكتورة سحر سليم بأهمية الجانب الأخلاقي وضرورة استعادة رفات الإنسان المصري بالخارج، هذا الرجل اختار أن يُدفن في مكان محدد وبطريقة خاصة تعكس معتقداته الروحية والدينية دفنه داخل جرة فخارية في مقبرة منحوتة كان يحمل رمزية واضحة في ذلك الوقت.
لهذا السبب هناك دعوة متزايدة الآن إلى استعادة رفاة المصريين القدماء إلى مصر واحترام رغبة الإنسان في موته هو أمر أخلاقي وإنساني فالمسألة هنا ليست فقط علمية أو أثرية بل تتعلق أيضًا باحترام كرامة الإنسان.
إذا فالهوية المصرية ليست مجرد تحليل جيني. بل جسر ممتد بين الماضي والحاضر.. ويأتي دور العلوم بقدرة التكنولوجيا على إعادة بناء حياة إنسان عاش قبل آلاف السنين وما زالت له ملامح وقصة تُشبهنا إلى اليوم.