[ الصفحة الأولى ]أخبار

بين روسيا وأوكرانيا.. «اقتصاد الكلاشينكوف» وعقوبات دولية

لم يتعاف الاقتصاد العالمى، من الخسائر المدمرة التى لحقت به من جراء جائحة كورونا، على مدى أكثر من عامين، حتى يفاجأ بحرب وشيكة تقترب من الاشتعال فى قلب أوروبا، فتتصاعد التوترات بين روسيا والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وسط مخاوف محتملة من دخول روسيا إلى الأراضى الأوكرانية، الأمر الذى تبعه تهديد أمريكى واضح بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو.

سلاح العقوبات، هو السلاح الوحيد، الذى يملكه الغرب فى مواجهة الدب الروسى، فأى حلول عسكرية بالطبع، غير واردة مع دولة تمتلك جيشا من أقوى الجيوش حول العالم، ويأتى اقتصادها فى المركز الـ 11 فى ترتيب أكبر اقتصادات العالم فى عام 2021، بناتج محلى إجمالى يبلغ 1.47 تريليون دولار، بحسب بيانات صندوق النقد الدولى.

أمام تهديدات الرئيس الأمريكى جو بايدن، بفرض عقوبات على الاقتصاد الروسى، وضع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، خططاً محكمة لمواجهة أى عقوبات أو قيود محتملة على اقتصاده، وذلك لدعم سياساته التى تعتبرها أمريكا تهديداً لأمنها، وأخيرا طالب الرئيس الروسى بوتين، رؤساء الشركات الحكومية، بالتحول إلى البرمجيات المحلية، فى أسرع وقت ممكن، لتفادى احتمالية فصلهم عن البرمجيات المستوردة، التى يعتمدون عليها، وعزز شعور موسكو بالتهديد، ما حدث من هبوط حاد لأسعار النفط، إلى جانب فرض عقوبات اقتصادية عليها، بسبب النزاع التاريخى مع أوكرانيا، ومع تفشى الجائحة، وجه بوتين بدعم الإنتاج المحلى بهدف خفض فاتورة الواردات، مع استمرار خطته الخاصة بتقييد الإنفاق العام.

قوة الاقتصاد الروسى

بدأ الكرملين فى عام 2014، تنفيذ إستراتيجية لتأمين الدولة مالياً، وضبط اقتصادها الكلى، وتقليص الاعتماد على الدولار، فى مقابل الروبل الروسى، دعم ذلك شراكات تجارية عقدتها موسكو مع عدد من دول العالم بالعملة المحلية للبلدين.

وبرغم معاناة اقتصادات العالم من آثار الجائحة، فإن روسيا اليوم لديها دين عام منخفض واحتياطى نقدى أجنبى، يقدر بنحو 640 مليار دولار، مع غطاء مالى يقدر بنحو 12% من إجمالى الناتج المحلى، كما استفاد الاقتصاد الروسى، بشدة من قفزة أسعار النفط، والغاز الطبيعى خلال 2021، التى انعكست على ارتفاع عائدات تصدير النفط والغاز، ليس هذا فحسب بل إن موسكو أصبحت مُصدراً صافياً للمنتجات الزراعية لأول مرة فى عام 2020، لكن فى الوقت نفسه، من المعروف أن الصادرات الروسية، تعتمد على صناعات محدودة، تشمل الأسلحة، والنفط والغاز الطبيعى، والتكنولوجيا النووية والحبوب.

ومن بين المؤشرات الضعيفة للاقتصاد الروسى، ارتفع معدل التضخم إلى أكثر من ضعف المعدل المستهدف من قبل البنك المركزى، ويتزامن ذلك مع انخفاض قيمة الروبل، أمام الدولار، وتراجع متوسط الدخل الحقيقى للفرد، مقارنة بما كان عليه قبل غزو روسيا، لشبه جزيرة القرم الأوكرانية قبل 8 سنوات.

ولم تؤت تضحيات الروس، فى سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتى بالثمار المرجوة، فمازال الاقتصاد الروسى يعتمد بشدة على قطاع النفط والغاز، الذى شكل نحو 20%، من إجمالى الناتج المحلى خلال السنوات الأخيرة، ونحو 40% من الإيرادات الاتحادية، وجزء كبير من الصادرات.

كما أن العلاقة بين روسيا، والقارة العجوز، علاقة قائمة على المصلحة المشتركة، فبرغم اعتماد أوروبا القوى على استيراد الغاز الروسى، الذى يمثل نحو 40% من واردات الغاز فى أوروبا، فإن روسيا أيضا تعتمد على السوق الأوروبية لتصدير الغاز بشكل خاص.

فى المجمل، تشير هذه الأرقام إلى قوة الاقتصاد الروسى، لكن من الضرورى أيضاً الالتفات إلى أن تلك القوة، ليس معروف مدى قدرتها على الصمود فى وجه العقوبات الاقتصادية، التى قد تفرضها القوى الغربية، فحجم تلك العقوبات ومداها الزمنى، قد يقلب الموازين ويضغط بالفعل على الاقتصاد الروسى.

كما هدد الرئيس الأمريكى جو بايدن، نظيره الروسى، صراحة بفرض عقوبات على ثروته، حال استمراره فى مخططه للهجوم العسكرى على أوكرانيا، ليظهر تساؤل رئيسى حول قيمة ثروة بوتين التى لا يعلم قيمتها أحد، فأغلب الأرقام المذكورة هى محض تقديرات، تتراوح بين الـ 70 مليار دولار إلى 200، مليار دولار بحسب تقرير لفوربس، أعلنت فيه تلك القيم وفقاً لثلاث نظريات مختلفة.

ويشير تقرير لوكالة بلومبرج، أن سلاح العقوبات الاقتصادية، ربما لن يجدى نفعاً مع روسيا، فيما ترى أن الحل الأنسب، هو عزل نظامها المصرفى من خلال شبكة رقمية تسمى «جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك» أو «سويفت» المستخدمة لتحويل الأموال عبر الحدود أو تسوية صفقات الأوراق المالية خلال دقائق معدودة، ويعتبر هذا السلاح رادعاً، فقد استخدمته ضد إيران فى عام 2012، وبسببه فقدت طهران عائدات نفطية ضخمة، إلى جانب جزء كبير من التجارة الخارجية.

بالرغم من ذلك سيكون لسلاح السويفت، تكلفة اقتصادية كبيرة على دول كبرى مثل الولايات المتحدة وألمانيا، التى تربطها علاقات وثيقة بالمؤسسات المالية الروسية.

وقد انتبهت روسيا بشكل استباقى، لهذا السيناريو، فطورت نظام الدفع الخاص بها، لكنه لا يعالج سوى 20% من التحويلات المحلية للبلاد، بالإضافة إلى مشكلة أخرى، تتمثل فى عدم ثقة عدد من شركائها حول العالم – مثل الصين – فى هذا النظام؛ بسبب مخاوف تتعلق بالخصوصية والأمان وموثوقية المعاملات الرقمية بشكل رئيسى.

أشكال العقوبات

لم يتم الكشف بعد عن حزمة العقوبات، التى تنوى إدارة جو بايدن، فرضها على موسكو، لكنها ستستهدف البنوك الروسية والشركات الحكومية وعددا من الواردات الرئيسية للبلاد، وتحديداً على الرقائق الإلكترونية، بحسب تقرير لـ”وول ستريت جورنال”.

وذكر التقرير أيضاً، أن العقوبات التى يجرى إعدادها حالياً غير مسبوقة ولم تُفرض على روسيا من قبل، كما أنها لن تكون تدريجية بل ستستهدف مجموعة واسعة من الأنشطة مباشرة، لذا سيكون لها أثر بالغ فى إرباك الأسواق العالمية ككل.

وتأتى الديون السيادية، كوسيلة ضغط أخرى فى يد الغرب، عبر إمكانية منع وصول روسيا إلى أسواق الديون الدولية، ما يحرمها من الحصول على التمويل الذى تحتاجه لتنمية اقتصادها، وهو ما يعرضها بالتبعية إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض فى البلاد وتراجع الروبل، واستعدت لذلك روسيا بالفعل، عبر إستراتيجيتها التى خفضت حجم الديون التى يحتفظ بها المستثمرون الأجانب.

كما أن القيود على التصدير إلى روسيا، ستكون أيضاً ضربة موجعة للاقتصاد الروسى، وبالتحديد تقييد تصدير رقائق أشباه الموصلات الدقيقة التى تدخل فى مختلف الصناعات اليوم، ما يعنى تأثيراً قوياً ليس فقط على قطاعى الدفاع والفضاء.

فقطاع النفط والغاز، أحد أعمدة الاقتصاد الروسى، وأى محاولة لوضع قيود عليه يعنى خسارة فادحة، لن تقوى موسكو على الصمود أمامها لفترة طويلة، خصوصا إذا تحدثنا عن جعل شراء النفط من الشركات الروسية الكبرى، مثل جازبروم وروسنفت أمراً غير قانونى.

أما فيما يخص الغاز، فالأمر سيختلف قليلاً مع اعتماد أوروبا على نطاق واسع على الغاز الروسى، ما يعنى أن أى قيود مفروضة على الغاز الروسى سيرفع أسعار مباشرة فى جميع أنحاء أوروبا، وهو ما سيقابل برفض كبير بالطبع.

سيناريو استهداف الأفراد أمر شائع فى السياسة الأمريكية، يحدث بشكل متكرر سواء لرجال أعمال روس، أم أفراد فى السلطة، يتمثل هذا الاستهداف فى تجميد الأصول أو حظر السفر، لكن تلك القيود اعتاد عليها الروس ولم تعد مؤثرة.

الدولار والروبل

تستطيع واشنطن منع روسيا، من استخدام الدولار فى معاملاتها المالية، من خلال منع أى شركة من التعامل بالدولار، مع شركات محلية وإلا ستواجه عقوبات، وسيضيف ذلك مزيدا من القيود على موسكو، فيما يتعلق بالبيع والشراء فى جميع أنحاء العالم. ومن المتوقع أن يكون أكبر المتضررين من هذا الإجراء، هو قطاع النفط والغاز الروسى، الذى تتم تسوية معظم مبيعاته بالعملة الأمريكية، ما يعنى إلحاق ضرر بالغ بالاقتصاد الروسى المعتمد بشكل رئيسى على هذا القطاع.

فيما يتعلق بعملة الروبل الروسية، فإنها تعانى بشدة مع تصاعد حدة التوترات أخيرا مع الغرب، مع توقعات باستمرار تراجع العملة الروسية بنحو 0.5% إلى 77.3 روبل لكل دولار، وكان قد قرر البنك المركزى الروسى تعليق شراء العملة الأجنبية الإستراتيجية حالياً وإلى أجل غير مسمى، بهدف مواجهة التقلبات فى الأسواق المالية بالتزامن مع التوترات الجيوسياسية التى يشهدها العالم.

فى النهاية، يتضح أن فرض العقوبات، سيكون موجعاً لجميع الأطراف، سواء روسيا أم أمريكا أم أوروبا، فالعلاقات التجارية والاقتصادية بين كلا الجانبين وثيقة وعميقة وسيصعب نزع الجانب الروسى، بسهولة دون الإضرار بالآخرين، ويبقى الأمر رهيناً بقرار إما فرض العقوبات أو استمرار التلويح بها من بعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى