
كانت مكة من أهم المراكز الدينية قاطبة بعد دعوة سيدنا إبراهيم لعقيدة التوحيد التى كان مقرها البيت الحرام إلى جانب وجود عدد محدود ممن يدينون باليهودية والمسيحية، وبعد وفاة “نبت” بن إسماعيل تولت قبيلة “جرهم” الإشراف على الكعبة حتى انتزعها منهم “عمرو بن لحي” زعيم قبيلة “خزاعة” والذى وضع أول صنم حول الكعبة وهو”هٌبل” لتنتشر عبادة الأصنام حول البيت الحرام وبداخله ثم وصلت الزعامة لقبيلة “قريش” وصار”قٌصى” الجد الرابع للنبى محمد صلى الله علبة وسلم الزعيم الديني للبيت الحرام من خلال رئاسته لدار الندوة واللواء، وخدمة الحجيج وسقايتهم. ثم خلفه من بعده ابنه عبد مناف بن قصي، ثم ابنه هاشم، ثم عبد المطلب فأبو طالب، ثم أخوه العباس وظل الوضع متوارثًا على هذا النحو حتى بزغ فجر الإسلام فعادت للبيت الحرام هيبته وطهارته الأولى التى بدأت مع سيدنا إبراهيم وأصبح البيت قبلة الحجيج من كل أصقاع الأرض إلى قيام الساعة.
وفى ضوء ذلك وبمناسبة الاحتفال بقدوم العام الهجرى الجديد ترصد لنا الدكتورة سهام عبد الباقى رئيس قسم التاريخ والآثار بالجامعة الإسلامية – منيسوتا USA “الثقافة القرشية بين الإسلام والجاهلية” موضحة أن الحجاز التى كانت بمثابة قبائل متطاحنة لم تعرف مصطلح (الدولة المدنية) إلا بعد تَشكٌل المٌجتمع الإسلامى فى المدينة الذي شهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة.
وقام بٌنيانه على المساواة وعدم التمييز بين البشر على أساسي عرقي والعدل والاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله وحفظ الحقوق وأداء الأمانات إستنادًا إلى دستور مدنى يٌعدٌ الأول فى تاريخ الدلة الإسلامية اشتمل على (25) بند لتنظيم حياة المسلمين بينما بلغت البنود المتعلقة بتنظيم العلاقات الإجتماعية أو علاقات المواطنة مع يهود المدينة (27) بند ارتكزت على حقوق غير المسلمين فى حسن الجوار وحرية العقيدة والعبادة.
مكة قبل الإسلام
وتشير الدكتورة سهام عبد الباقى إلى حال المجتمع المكى حين بٌعث النبي رسولاً إلى قومه حيث كان يٌعاني العديد من المٌشكلات الإجتماعية تمثلت فى الطبقية من انقسام فئات المجتمع إلى ثلاث طبقات رئيسية تمثلت الأولي في: طبقة السادة أو أشراف قريش الذين يتحكمون فى رأس المال وفى الطبقات الأدنى.، الثانية : طبقة الفقراء المٌعدمين اللذين لا يملكون القرار، بينما الثالثة : هي طبقة العبيد المجبلون على الطاعة المطلقة لأسيادهم.
كما عانى المجتمع القرشي من كثير من المشكلات الأخلاقية مٌمثلا في “البِغاء” الذى كانت له مراكز خاصة ونساء اتخذنه كمهنة عٌرفن باسم صاحبات الرايات الحٌمر، فضلًا عن جمع بعض النساء بين أكثر من رجل مما أدى إلى اختلاط الأنساب، وتمثلت المشكلات الاجتماعية فى انتشار القتل والسرقة وقتل الأبناء بمعنى إجهاض النساء مخافة الفقر ووأد الإناث مخافة السبي.
تعاليم الإسلام
وتنوه الدكتورة سهام عبد الباقى إلى أن تعاليم الإسلام السمحة قضت على الطبقية والتمييز العرقي وجعلت البشر سواسية فتحرر العبيد وصاروا أسوة بغيرهم وأصبحت خيرية الإنسان ومكانته مرهونة بتقواه وحسن إيمانه، وبعدما كان الغني يأكل حق الفقير أصبح للفقراء حظًا ونصيبًا من مال الأغنياء ففٌرضت الزكاة للفقراء لتضييق الهٌوة بينهم وبين الأغنياء، كما أقام الإسلام نسق قيمي يشجب جميع أشكال التنمر والتنابز بالألقاب والإعتداء اللفظى على الآخر لما لا وقد أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق فجعل أبسط أنواع السلوك الإنساني بمثابة صدقة رغم أن الصدقة تنطوي على جانب مادي غير أن النبي صلى الله علية وسلم ربطها بالجانب المعنوي كذلك فجعل التبسم، وإماطة الأذى من الصدقات.
كما اختفت التعاملات الاقتصادية التى أسسها التظام القبلي فتوقفت المعاملات المالية الربوية لتحل محله قيم التضامن والتكافل وقضاء الحوائج والحفاظ على أموال الناس وكتابة الدين وحفظ مال اليتيم حتى يبلغ أجله.
وعلى المستوى الثقافي فرغم ما عٌرف من بلاغة وفصاحة العرب وكثرة شعرائهم كان الجهل متفشيًا فى المجتمع بدرجة كبيرة وقد تم التغلب على الجهل والأٌمية من خلال الدعوة إلى القراءة وطلب العلم، وقد وظًف النبى محمد صلى الله عليه وسلم الأسرى واستفاد منهم في تعليم المسلمين القراءة والكتابة مقابل إطلاق سراحهم فكانت حرية الأسير مرهونة بتعليم عشر من المسلمين.
ورغم أنه لا يمكن إنكار أو إغفال ما عٌرف به العرب فى الجاهلية من مروءة وشهامه ووفاء بالعهود لكنهم كانوا يفتقرون إلى قواعد عامة منظمة لتعاملاتهم ولأنظمتهم الإجتماعية حتى أتت تعاليم الإسلام لتضبط كل تلك الأمور لذا أخبرنا النبي أنه بٌعث ليتمم مكارم الاخلاق التى تمثلت فى دعوته ورسالته التى ضمنت حفظ العهود والوفاء بالوعود ونبذ الخلافات والعنف والدعوة للترابط الاجتماعي وللسلم وعدم التمييز على أساس العرق والنوع الإجتماعي فأمر النبي بإكرم المرأة واحسان عشرتها وإكرام البنات والإحسان إليهن وجعل جزاء من يٌحسن لبناته الجنة واجتٌثت من قلوب المجتمع المسلم حب الذكر وتفضيله عن الأنثى لأنها من سمات الجاهلية التى دحرها الإسلام.
ثقافة المحبة
وتشير الدكتورة سهام عبد الباقى إلى تأثير الإسلام فى نبذ ثقافة البغض والجور والاستعلاء واستبدالها بثقافة المحبة والعدل والتواضع واستبدل الأنظمة الديكتاتورية التسلطية بأنظمة ديمقراطية أعلت مكانة الإنسان وساوت بين أفراد المجتمع فى الحقوق والواجبات وحددت لهم تعاملاتهم ومعاملاتهم مع غيرهم من البشر أيما كان انتمائهم الديني، فالدين الاسلامي دين تكامل مع غيره من الديانات ولم يفرق بين رسل الله وهذا شرط أساسي فية فهو دين الوحدة لا الفرقة، الإجماع لا التحزب والتمذهب.
لذا لم يٌغفل الإشادة به الحياديون من مفكري الغرب اللذين أكدوا عظمة وإنسانية النبى محمد صلى الله عليه وسلم منها ما ذكره الكاتب المسرحي الأيرلندي (برنارد شو) مشيرًا إليه صلى الله علية وسلم بقوله (الشخص الوحيد القادر على حل مشكلات العالم بينما يتناول فنجانًا من القهوة )، ألا تؤكد تلك العبارة أن قدرة النبي على حل مشكلات عالم تعددت ألوانه وأجناسه ولغاته وثقافاته وتضاربت فيه المصالح مكمنها تأصل معاني الرحمة والعدل والتكامل والتعاون والاحترام وقبول الآخر، لما لا والاإسلام رسالة عالمية تسع العالم أجمع. خلقت أمة أعتزت بهويتها وتمسكت برسالتها وصنعت تقويمًا يميزها عن غيرها من الأمم ارتبط بهجرته الشريفة التى كانت بداية تأسيس لدولة عاشت مع غيرها من الأمم التى سبقتها بوئام وسلام وتعاون وتكامل وأرست مبادىء الحوار البناء بين الأديان دون اكراه أو اجبار لنحيا على الأرض بسلام فهذا جوهر ومعنى الإسلام