[ الصفحة الأولى ]تاريخ وحضارة

فى الذكرى 43 لتحرير سيناء، مصر.. مقبرة الغزاة

د. عبد الرحيم ريحان

عاشت مصر قرابة قرن من الزمان تحت احتلال بغيض أطلق عليهم المصريون اسم (حقاو خاسوت) ثم حرفت إلى (الهكسوس) حيث احتل الهكسوس مصر بالتزامن مع الأسرات الخامسة عشر والسادسة عشر وجزء من عصر الأسرة السابعة عشر، وتقدم لنا حملة الدفاع عن الحضارة المصرية نموذجًا لحرب التحرير أعدته الدكتورة رنا التونسى رئيس لجنة البحوث والدراسات الأثرية بالحملة، نائب رئيس الحملة.


تشير الدكتورة رنا التونسى إلى أن الهكسوس لم يدخلوا مصر في هيئة جيش محارب بل قبائل متفرقة أو كما وصفها الدكتور عبد العزيز صالح “تحركات شعبوية كبيرة” تحت ضغط ظروف معينة قد تكون طبيعية أو بشرية غير معروفة لنا حتى الآن، ورجح البعض أن النقش الشهير الموجود على الجدار الشمالي لمقبرة (خنوم-حتب الثاني) عمدة إقليم “منعت خوفو” أو “مرضعة خوفو” الذى يسجل دخول عددًا من “العامو” هو تصوير لدخول الهكسوس مصر

حرب التحرير

توضح الدكتورة رنا التونسى أن إرهاصات التحرير بدأت من جنوب مصر وتحديدًا من إقليم طيبة حيث استطاع المصريون أن يمدوا نفوذهم حتى أبيدوس ويزيحوا الهكسوس ونفوذهم شمالًا حتى حدود القوصية.

عاشت أسرة عظيمة في نهاية عصر الأسرة السابعة عشر أخذت على عاتقها تحرير مصر من الغزاة الهكسوس وهم الملك “سقنن رع” والملكة الزوجة والأم “إعح حتب” والأبن الأكبر “كامس” والأبن الثانى”أحمس” وأخدوا على عاتقهم حتمية طرد الهكسوس من مصر ولم تكن مهمتهم هذه هينة بالعكس؛ فكان يجب عليهم الحذر والسرية الشديدة مخافة إثارة الهكسوس ضدهم قبل استكمال استعدادهم للمواجهة الحتمية.

وظل كفاح هذه الأسرة عالقًا في أذهان المصريين كبارًا وصغارًا تتناوله وتتحاكى به الأجيال ومع ذلك لم يسجل التاريخ كثيرًا من تفاصيل هذه المرحلة الا عن طريق عدد من الأثار القليلة منها بردية كتبها طالب مصري يدعى”بنتاورة أو بنتاور” بعد خروج الهكسوس من مصر بحوالي ثلاثمائة عام موضحًا بداية الصراع والاحتكاك بين حكام طيبة والهكسوس، و قصة الاشتباك بين حاكم طيبة “سقتن رع” وملك الهكسوس “أبيبي” أو “أبوفيس” في أولى معارك وحروب تحرير مصر من محنة الاحتلال الهكسوسي البغيض والمصدر الثاني لهذه الأحداث هي جدران مقبرة القائد “أحمس بن أبانا” بالكاب الذي شهد على أحداث طرد الهكسوس أثناء خدمته العسكرية.

بدأ “بنتاورة” كلامه عن هذه الفترة قائلًا “أن مصر كانت تحت وطأة الوباء، ولم يكن لها سيد يعتبر ملك زمانه” واعتاد المصريين على تسميتهم بالوباء وذكروا أيضًا في بردية سالييه بالطاعون، وذكروا أيضًا في بردية “بنتاورة” أن “أبوفيس” وهو يحاول البحث عن مبرر كي يشتبك مع حاكم طبيبة الملك “سقنن رع” فنراه يرسل إليه برسالة غريبة متحرشًا به يشكو فيها أن أصوات أفراس النهر التي تسبح في البحيرة المقدسة بمعبد الإله آمون في منطقة طيبة تزعج ملك الهكسوس وتمنعه من النوم في عاصمته البعيدة أواريس التي تقع في دلتا النيل وتبعد مئات الكيلومترات عن طيبة، ويبدو أن”أبوفيس” يقصد برسالته هذه أنه على علم بنشاط الملك “سقنن رع” ورجاله واستعدادهم لدخول المعركة ويبدو أنه تعمد استفزازه والتقليل من شأنه وانتهت البردية عند معاملة الملك “سقنن رع” للرسول معاملة حسنة وأكرمه وجمع رجاله وبدء يشاورهم في الأمر.

مومياء “سقنن رع”

تنوه الدكتورة رنا التونسى إلى أن دراسة مومياء الملك “سقنن رع” الموجودة بالمتحف المصري بميدان التحرير أكدت أنه سقط شهيدًا في معركة الشرف والكفاح كي يحرر مصر من محنة الاحتلال البغيض وتوضح موته متأثرا بجراحه، وتم التأكد من هذا الأمر بعد تجربة بعض الأسلحة التي استخدمها الهكسوس وتطابقها مع معظم الجراح الموجودة بالجمجمة، فضلا عن سوء التحنيط الذي جرى لهذه المومياء نظرًا لسرعة تحنيطه في ساحة المعركة.

ونشرت دورية “فرانتيرز” العلمية نتائج فحوص أجراها الدكتور زاهي حواس بالاشتراك مع أستاذة الأشعة بجامعة القاهرة الدكتورة سحر سليم وقدموا تفسيرًا جديدًا لوفاة سقنن رع استنادًا إلى صور أشعة مقطعية ثنائية وثلاثية الأبعاد لمومياء الملك والتي أظهرت تشوهات في الذراعين تشير إلى احتمال وقوعه في الأسر في ساحة المعركة ومن ثم تقييد يديه خلف ظهره مما أعجزه عن صدّ ضربات انهالت فوق رأسه وعلى وجهه وكشفت الأشعة أيضا عن إصابات دقيقة في الرأس كان المحنطون قد أخفوها بمهارة لم تكشفها الفحوص التي أجريت بالأشعة السينية على المومياء في ستينيات القرن الماضي، كل هذا البلاء دون أن يتخطى الثلاثين من عمره، ثم تولى بعده درب الكفاح المر أبنه الأكبر”كامس”.

بطولات “كامس”

ولفتت الدكتورة رنا التونسى أن كامس أو “واز خبر رع كامس” آخر ملوك الأسرة السابعة عشرة في طيبة تسلم راية الجهاد ضد الهكسوس بعد استشهاد والده “سقنن-رع” وتشير الوثائق أنه قد يكون حكم ما بين ثلاثة إلى خمسة أعوام وهو البطل الثاني من الملوك الأبطال أصحاب ملحمة تحرير مصر من الهكسوس.
هو ملك مصري عظيم أستطاع أن يمد حكم دولته من الجنوب حتى الشمال وبذلك أزاح تمدد حكم الهكسوس في مصر وحقق انتصارات مذهلة ضد الهكسوس كما أن مجهوداته ضدهم مهدت الطريق لسلفه لطردهم نهائيًا من مصر، وينسب إليه أنه صاحب الحروب الحقيقية لخلاص مصر من نير هذا الأحتلال حيث أحكم الحصار الاقتصادي على أعدائه واستخدم الحرب النفسية ضدهم متعمدًا إرسال رسائل شديدة اللهجة تبس في نفوسهم الرعب، كما أستطاع أن يبث الفرقة بينهم فاستحق أن يخلده التاريخ ومع ذلك لم يأخذ حقه في الشهرة بين ملوك مصر العظماء ولم تتناوله الكتب الدراسية في المراحل الابتدائية ولذلك يجهله العديد من المصريين كبارًا وصغارًا.

نقش جهاد هذا الملك على ثلاث وثائق مصرية تكمل كل منهما الأخرى مما أنتج لنا في النهاية قصة شبه كاملة عن هذا الكفاح:

الوثيقة الأولى: هي نص كتبه تلميذ مصري قديم على لوح خشبي بالخط الهيراطيقى يعرف بلوح “كارنارفون” نسبة إلى اسم مكتشفه حيث يفيد هذا اللوح أن “كامس” هزمهم شمال الأشمونيين في مصر الوسطى (محافظة المنيا).

الوثيقة الثانية: مكتوبة على لوحة عثر عليها عام ۱۹۲۸ تفيد أن “كامس” كان شديد النقمة بعد استشهاد والده على استمرار الاحتلال البغيض لأرض مصر الطاهرة فطلب دعوة رجال بلاطه وقادة جيشه كي يشاورهم في الأمر وعرض عليهم نيته في محاربة الهكسوس الذين لم يكونوا يملكون الدلتا وحدها بل وصل نفوذهم إلى القوصية بأسيوط.

ويؤكد على ذلك قول رجال البلاط للملك “تأمل لقد تقدم الأسيويين حتى وصلوا إلى القوصية ولقد أخرجوا لنا ألسنتهم حتى أخرها”، فأخذوا في مدح جلالته والتغني بشجاعته والإشادة بقوته فأثارته الدهشة من أقوالهم ولفت نظرهم إلى موقفه بين ملكين أحدهما أسيوي يحكم في الشمال والآخر كوشي يحكم في الجنوب وشعر أن رجاله لا يميلون إلى الحرب وأنهم موافقون على الوضع الحالي قائلين “أنه مازال يتمتع بحقوقه في الأراضي الزراعية التي يستولى عليها الأجانب”.

ورفض “كامس” ذلك الموقف وصمم على قتال الهكسوس مهما كلفه الأمر على الرغم من ضعف موقفه وبالفعل تقدم “كامس” شمالاً حتى وصل إلى بلدة نفروسي (شمال القوصية في أسيوط) وانتصر على حاكمها الذي كان مواليًا ومتحالفًا مع الهكسوس.

يستخلص من هذه الوثيقة أن مصر في هذه الفترة كانت مقسمة إلى ثلاثة أجزاء حيث قال “كاموس” “وأنا أجلس(في الحكم) يشاركني رجل من العامو و عبد وكل رجل منهما مسئول عن جزءه في مصر إني لا أكاد أن أبلغ منف”: الدلتا ومصر الوسطى في قبضة الهكسوس.، ومصر العليا تحت حكم المصريين “كامس” وبلاد النوبة يحكمها الكوشيين.

والوثيقة الثالثة: هي لوحة كاملة من الحجر الجيري عثر عليها في معابد الكرنك عام ١٩٥٤ وتكمل أحداث الوثيقتين السابقتين وتروي لنا قصة استمرار انتصارات “كامس” على الهكسوس وعن الرعب الذي أدخله جيش مصر العظيم في قلوب أعدائه من الهكسوس المحتلين.

كما تقص أيضا هذه اللوحة الغنائم التي حصل عليها “كامس” من أسر رسول بعث به ملك الهكسوس “أبوفيس” لإيصال رسالة منه إلى ملك كوش في بلاد النوبة العليا يطلب منه المساعدة ومهاجمة مصر من الجنوب أثناء انشغال “کامس” في حروبه في الشمال بحيث يحاصر “كامس” وجيشه العظيم شمالًا وجنوبًا، ثم يعدد المدن التي استولى عليها.


وفي العام الثالث من حكم الملك الكوشى نفذ “كامس” حملة عسكرية مفاجئة ضد الكوشيين أعوان الهكسوس في جنوب مصر كي يقطع الإمدادات والصلات بين عدوه الأساسي(الهكسوس) وحليف عدوه (الملك الكوشى) كما أنه قام بحملة عسكرية أخرى ضده في العام الرابع أو الخامس من حكمه.

ولا توجد أي وثائق تخبرنا كيف كانت نهايته ووفاته على وجه التحديد أو سبب موته، ولكن لوحظ أن موميائه لم تجهز للدفن بعناية كما كان الحال في الفترات المضطربة ويقال عندما كشف “مارييت” غطاء التابوت تحللت كليًا، لكنه كان مربوطًا بذراعه بردية مجدولة بأناقة وخنجر من الطراز النوبى لكن ذهب العديد من العلماء أنه قد يكون حصد الموت روحه الطاهرة أثناء معاركه في الشمال مع الهكسوس، ومن المؤكد قبل أن يحرر عاصمة الهكسوس “أواريس” في شرق الدلتا المصرية تاركًا هذه المهمة المقدسة لخليفته وأخيه الأصغر قاهر الهكسوس الملك البطل محرر مصر من هذه المحنة الملك العظيم مؤسس الأسرة الثامنة عشرة والدولة الحديثة وعصر الإمبراطورية المصرية المجيدة في الشرق الأدنى القديم “أحمس الأول”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى