ينتجها الذكاء الاصطناعى .. “القطرة المقدسة” .. الدم البديل على أعتاب الشرايين
محاولات العلماء منذ عدة قرون لاتتوقف من أجل إيجاد بديل اصطناعى للدم لا تتوقف، وباءت الكثير من التجارب عبر هذه السنوات بالفشل، رغم معرفتهم التامة بمكونات الدم من بروتينات وملح وصفائح الدموية وخلايا حمراء وبيضاء وبلازما وعناصر أخرى..
وفى إطار سعيهم الحثيث للتوصل إلى هذا البديل، وجدوا ضالتهم فى «مارد العصر» الذكاء الاصطناعى ليساعدهم فى الوصول إلى تحقيق هذا الحلم، وانطلقت بالفعل التجارب والمحاولات الجادة منذ سنوات، وأصبح الوصول إلى المرحلة النهائية، ومن ثم الإنتاج الغزير فعليا للدم الصناعى فى المعامل على بعد خطوات، عبر مجموعة من التخصصات لمحاولة محاكاة الدم الطبيعى، من بينهم خبراء النانو تكنولوجى، وهندسة الأحياء والخلايا، يقودهم “مارد العصر”.
منذ أوائل القرن السابع عشر، سعى الأطباء دون جدوى إلى إيجاد بديل مناسب لـ”إكسير الحياة”، عن طريق حقن كل شىء من الحليب إلى دم الأغنام، والمحاليل الملحية، والمواد الكيميائية. لكن الطلب الحديث على نقل الدم لا يزال يطرح مشاكل هائلة فى العرض والتوصيل، ولعل من أبرز المزايا التى يتمتع بها الدم الصناعى، خلوه من مسببات الأمراض وسهولة استخدامه وكذلك حفظه لفترات طويلة جدا وفى درجات حرارة مختلفة، وقدرته على إيصال الأكسجين إلى الأنسجة بفاعلية عالية جدًا.
وفى عام 2017 تمكن فريق جامعة بريستيل فى بريطانيا من تطوير طريقة جديدة لإنتاج إمدادات غير محدودة من خلايا الدم الحمراء، وذلك بعد نجاحهم فى تحفيز الخلايا الجذعية فى مرحلة مبكرة على النمو بشكل غير محدود، التى يستطيع العلماء تحفيزها مرة أخرى لتكون خلايا الدم الحمراء، أعلن فريق العلماء حينها عن نجاحه فى تحضير لتر من الدم الصناعى بالفعل، ويحتوى كيس الدم الواحد على نحو تريليون خلية دم حمراء، لكن تكمن المشكلة فى الكمية التى يمكن تكوينها.
محاكاة بلازما الدم
أخيرا تمكنت تينج شو، عالمة البوليمرات بجامعة كاليفورنيا فى بيركلى، من تطوير طريقة لتقليد وظائف محددة للبروتينات الطبيعية للدم باستخدام اثنتين أو أربع أو ست وحدات بناء مختلفة فقط؛ تلك المستخدمة حاليًا فى صناعة البلاستيك؛ ووجدت أن هذه البوليمرات البديلة تعمل بالإضافة إلى البروتين الحقيقى، كما أن تصنيعها أسهل بكثير من محاولة تكرار تصميم الطبيعة.
وقد نشرت تينج شو، عالمة البوليمرات هى وزملاؤها نتائج أبحاثهم فى عدد من المجلات العلمية، والتى تؤكد اخترق الذكاء الاصطناعى لمجال إنتاج “إكسير حياة صناعى” وتحديد نوعية الدم الذى يحتاج إليه المرضى، ومازالت الآفاق ممتدة يوما بعد الآخر، حيث تمكن الفريق من تصنيع مجموعة عشوائية من البوليمرات التى تحاكى البروتينات الطبيعية فى الدم.
كما نشر باحثون فى مختبر كارلوس بوستامانتى، أستاذ البيولوجيا الجزيئية والخلوية والكيمياء والفيزياء بجامعة كاليفورنيا فى بيركلي، دراسات تمكنوا من خلالها من محاكاة سلوك البروتينات. وتقول تينج شو: “هدفنا الآن هو ببساطة تثبيت البروتينات ومحاكاة وظائف البروتين الأساسية، وأصبح من الطبيعى لنا استكشاف تعزيز وظائف حيوية أخرى للدم، وتطوير مواد حيوية للتفاعل مع الجسم تكون متوافقة مع الأنظمة البيولوجية، نحن ننظر إلى المسارات الفردية، والعوامل الفردية.
ضحايا الحليب!
كان البحث عن بديل سهل للدم، ولا يزال أكثر جاذبية بكثير من إجراء النقل الفوضوى لسوائل الجسم من شخص إلى آخر. لكن كانت الأفكار الأولية متواضعة وغير منطقية وراح ضحيتها بعض المرضى لإصرار الأطباء على إثبات صحة فرضيتهم.
ففى عام 1873، قام الدكتور جوزيف هاو من مدينة نيويورك بحقن 1.5 أونصة من حليب الماعز فى وريد مريض السل، وسرعان ما أصابه الدوار وألم فى الصدر وحركة العين التى لا يمكن السيطرة عليها وتوفى المريض على الفور.
من المثير للدهشة أن هاو لم يكن أول من أجرى عمليات نقل الحليب، فقبل سنوات، فى خضم وباء الكوليرا، أحضر طبيبان بقرة إلى مستشفى تورونتو وقاموا بضخ حليب الحيوان إلى مرضاهم، ومع ذلك، كان هاو مدافعًا وأكثر إصرارًا على الإجراء.
وفى اختبار لفرضية حول تفوق حقن البشر بالحليب البشرى، حصل هاو على ثلاث أوقيات من حليب الثدى من أم جديدة، وتوقف تنفس المريض عند تناول الأوقية الثانية، وهنا اعترف هاو بأن الحليب البشرى لم يكن بديلاً عن الدم، الذى كان يأمله هو وغيره من الأطباء.
أرباح الأسواق
أى شيء بدءًا من الجراحة وحتى علاجات السرطان ورعاية الإصابات وزراعة الأعضاء والولادة، قد يتطلب إمدادات من الدم وفى السيناريوهات الكارثية، حوادث السيارات فى الأماكن النائية، والكوارث الطبيعية، والقتال والحروب فى الخارج، يصبح عدم الوصول إلى الدم أزمة طبية خاصة به. وفى كل عام، يموت نحو 60 ألف شخص فى الولايات المتحدة بسبب النزيف قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى غرفة الطوارئ، وبمجرد وجود المتبرع، يجب فحص دمه للتأكد من خلوه من الأمراض المعدية وضرورة تتطابق فصيلة الدم. ويقول أنيربان سين جوبتا، أستاذ الهندسة الطبية الحيوية فى جامعة كيس ويسترن ريزيرف فى كليفلاند بولاية أوهايو: “إن كمية الدم التى نحتاجها لا تتطابق أبدًا مع كمية الدم المتبرع به،ببساطة ليس لدينا ما يكفي”.
كل هذا يعنى أن بديل الدم، سيكون مسعى مربحًا للغاية، فعلى مدى المائة عام الماضية، على وجه الخصوص، أدت الحروب العالمية وأزمة فيروس نقص المناعة البشرية إلى زيادة الاهتمام بإمدادات الدم غير المشتقة من الإنسان. ووفقاً لأحد التقديرات، يمكن أن تصل قيمة سوق الدم الاصطناعى إلى 15.6 مليار دولار بحلول عام 2027، إذا تمكنت الشركات من تطوير منتجات تقوم بكل شيء بدءًا من حمل الأكسجين، وتوصيل الأدوية، وتعزيز الشفاء.
واليوم، يلتزم عدد صغير من مجموعات البحث الأمريكية بإيجاد حل صطناعى لهذا اللغز البيولوجى. لقد مر قرن ونصف القرن منذ تجارب الحليب غير المجدية التى أجراها الدكتور هاو، ولا يوجد حتى الآن منتج دم صناعى آمن وفاعل معتمد فى الولايات المتحدة أو أوروبا لإعطاء الأشخاص الذين هم فى أمس الحاجة الطبية إلى الدم.
أبو الجراحة الأمريكية
بدأت الجهود لتقليد واحدة من أكثر اختراعات الطبيعة غموضًا بشكل جدى فى ستينيات القرن السابع عشر، حيث استخدم الطبيب الإنجليزى ريتشارد لوير الريشات كنوع من القنوات فى عمليات نقل الدم من كلب إلى كلب. وكتب لوير فى رسالة إلى الكيميائى روبرت بويل: “بعد ذلك، خياطة الجلد وطرده، وسوف يقفز الكلب من الطاولة ويهز نفسه ويهرب، كما لو لم يصبه شىء”. وفى نهاية المطاف، تم حظر عمليات نقل الدم الحيوانى.
وبعد مائة عام من ذلك، يقال إن طبيب فيلادلفيا الدكتور فيليب سينج فيزيك – المعروف باسم أبو الجراحة الأمريكية والذى كان من بين مرضاه الرئيس أندرو جاكسون ورئيس المحكمة العليا جون مارشال وزوجات وأبناء العديد من رؤساء الولايات المتحدة الآخرين – أجرى أول عملية جراحية نقل الدم البشرى عام 1795، كل ما هو معروف عن عملية نقل الدم هذه أنها حدثت، بناءً على حاشية من سطرين نُشرت فى مقال طبى لاحق.! وسرعان ما تبع ذلك المزيد من التجارب، وفى غضون عقود من تبادل الدم الأولى، أنقذ طبيب توليد بريطانى حياته بهذا الإجراء. ولإنقاذ أم جديدة من نزيف ما بعد الولادة، قام بحقن أربع أوقيات من دم زوجها، عن طريق حقنة، فى عروقها. فى حين أن البحث عن بدائل الدم يعود إلى قرون مضت، إلا أن التقدم الحقيقى لم يتم إحرازه إلا فى العقود الأخيرة. ومع ذلك، فإن البحث عن بديل سهل للدم كان (ولا يزال) أكثر جاذبية بكثير من إجراء النقل الفوضوى للسوائل الجسدية من شخص إلى آخر.
فى السبعينيات والثمانينيات، حاول عدد من الأطباء استخدام مستحلبات PFC كبدائل للدم، لكن التجارب السريرية اللاحقة أظهرت أن المرضى أصيبوا بآثار جانبية حادة بما فى ذلك زيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية، وانخفاض عدد الصفائح الدموية، وأعراض تشبه أعراض الإنفلونزا.
وكانت الإستراتيجية الأكثر نجاحاً هى السعى وراء بدائل الدم القائمة على الهيموجلوبين، التى تحاكى وظيفة نقل الأكسجين لخلايا الدم الحمراء عن طريق تصنيع وتعبئة الهيموجلوبين البشرى أو البقرى، وقام الباحثون بتجربتها لأول مرة على القطط عن طريق استبدال دم الحيوانات بالكامل بمحلول الهيموجلوبين الخالى من الخلايا، أحدث العلاج ضررًا كلويًا لدى القطط، لكن الجهود استمرت، وفى عام 1949 قامت مجموعة بإجراء تجارب سريرية على البشر لمحلول الهيموجلوبين الاصطناعى، وأدت التجربة إلى خلل وظيفى خطير فى الكلى لدى 5 من أصل 14 مريضًا.
وبحلول الثمانينيات، بدأت مجموعة من الباحثين من إلينوى وكامبريدج بتمويل عسكرى، فى اختبار مركبات معدلة كيميائيًا على البشر. وفى عام 2001، أصبح المركب، الذى طورته إحدى شركات الأدوية الحيوية، بديل الدم الوحيد، وتمت الموافقة على بيعه فى جنوب إفريقيا وهو غير معتمد من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، لكن المخاوف المتعلقة بالسلامة والصحة حالت دون أى تفاؤل. ويقول الدكتور ديبانجان بان، أستاذ الهندسة الحيوية فى جامعة إلينوي: ظل هذا المجال مظلمًا حتى وقت قريب، لكن الآن بات هناك ذوبان للجليد فى ذلك المجال.
اليوم، لدى الباحثين المسلحين بالتقدم الكبير فى تكنولوجيا النانو، وهندسة المواد، وبيولوجيا خلايا الدم والذكاء الاصطناعى إستراتيجية جديدة، وبدأ العلماء أيضًا فى التركيز على تصميم منتجات لاستخدامها فى الأماكن التى لا يكون فيها نقل الدم القياسى خيارًا على سبيل المثال، فى الريف، أو على متن سفينة سياحية، أو على متن محطة الفضاء الدولية، أو يومًا ما، على سطح المريخ!
على سبيل المثال، ابتكر بان، دكتور، وفيليب سبينيلا، طبيب أطفال فى كلية الطب بجامعة واشنطن، خلية دم حمراء صناعية، لإبقاء المرضى على قيد الحياة حتى وصولهم إلى المستشفى، كما ركزت مختبرات أخرى على محاكاة وظيفة تخثر الصفائح الدموية، وهو أمر ضرورى لضمان عدم نزيف الشخص.