إحالة للأرشيف

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود

ميسون غزلان

 

جمعية العاديّـات السورية (Al Adeyat Archaeological Society) هي جمعية أهلية تعنى بالتراث العمراني والآثاري واللامادي في سوريا تأسست في مدينة حلب بداية عام 1924 م بهدف حماية قلعة حلب ومن ثم استمرت كجمعية هدفها الأساسي هو المحافظة على التراث المادي وغير المادي السوري. يتناول نشاطها أراضي الجمهورية العربية السورية، ولها فروع في مختلف المحافظات السورية. وليس لها أي تدخل في الشؤون السياسية والدينية.

 


بداية كانت جمعية أهلية تهدف لحماية الآثار السورية والحفاظ على التراث اللامادي لمدينة حلب.
فمنذ آلاف السنين، كان لمدينة حلب السورية تاريخ حافل في سجل الحضارة الإنسانية، ومنها انطلقت معارف عربية هامة في الأدب والشعر والفن والعلوم، الأمر الذي بوّبها أن تكون في العام 2006 “عاصمة الثقافة الإسلامية ”بعد مكة المكرمة.
جمعية العاديات مئة عام في الحفاظ على التراث الحضاري السوري
حلب (سوريا) وخلال تاريخها الطويل، تعرضت المدينة للكثير من المخاطر والمصاعب، كانت إحداها في عشرينات القرن الماضي عندما احتلها الفرنسيون وسرقوا من قلعتها بعض الآثار، فانتفض الناس وأنشأوا “جمعية العاديات” التي تهدف لحماية الآثار السورية والتراث .
وللحديث عن “ جمعية العاديات ” يتحدث الباحث والمؤرخ السوري محمد قجة ،صاحب الإسهامات الأدبية والتراثية العديدة.

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود
ويقول “قجة”عن الجمعية “في الثاني من أغسطس عام 2024” ستحتفل الجمعية بمئويتها الأولى، والعاديات تعني الأشياء الموغلة في القدم، وكأنها من أيام عاد، ومازالت الكلمة تستخدم في بعض البلدان العربية بمعنى التحف أوالآثار القديمة، وكذلك تسمى كلية الآثار عند البعض بالعاديات كما الجامعة الأميريكية واليسوعية في لبنان”.
ولنشأة الجمعية في العام 1924،أسباب يرويها “قجة” “سنتها قام الحاكم العسكري الفرنسي لحلب بسرقة المحراب من الجامع الصغير في قلعة حلب، وهو يعود للمرحلة الزنكية، وهو آية في الجمال وبدعة تراثية، فتداعى أهلا لمدينة لتأسيس جمعية تعنى بالحفاظ على آثارها، وكان الأساسيان فيها هما الشيخ كامل الغزي والأب المسيحي جبرائيل رباط، اللذان شكلا مع مجموعة من الناس جمعية أصدقاء القلعة”.

وفي العام 1926، يقول الباحث السوري “أنشأ متحف حلب ،فتغير الاسم إلى جمعية أصدقاء القلعة والمتحف، فشعروا جميعا أن الاسم بات طويلا، فاختاروا أن يكون الاسم جمعية العاديات الذي أطلق عليها منذ العام 1930 ولايزال حتى الآن ”جمعية العاديات” من التجمعات الأهلية القليلة التي صمدت وقاومت الإهمال الذي أصاب غيرها، والسبب كما يقول الباحث “محمدقجة” يعود إلى ثلاثة عناصر، “أولها، لأنها أوجدت في نظامها الداخلي بندا يقول إن الجمعية لاتتدخل في الشأن السياسي ولا الديني، وثانيها أنها تقوم على الديمقراطية التامة، بحيث يجتمع منتسبوها ليختاروا أعضاء مجلس إدارتها الذين يتولون مهامهم لعامين متتاليين”.

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود
ولا تكتفي الجمعية بالمحاضرات، بل تقوم بجهد كبير في النشر الثقافي، عن ذلك يقول رئيسها “قجة”: “نصدر مجلة فصلية، بدأت منذ العام 1930، ومع توقف نشاط الجمعية من عام 1940 وحتى 1950 بسبب الحرب العالمية الثانية، توقفت المجلة كذلك، وفي العام 1950 جاء الرئيس الرابع للجمعية عبدالرحمن كيالي، وكان هو نفسه زعيم الكتلة الوطنية وعضوا في الحزب الوطني ووزير الأكثر من مرة ونائبا عن حلب في المجلس النيابي باستمرار، فعادت الجمعية على يديه إلى العمل حتى قيام الوحدة السورية المصرية في العام 1958 ، عندها حلت كل الجمعيات والأحزاب، وطُلب من الذي يريد الاستمرار تقديم طلب جديد بذلك، وتقدم الكيالي رئيس الجمعية بطلب جديد ، ونالت الجمعية تأسيسا جديدا عام 1959 بنفس الاسم والنظام الداخلي ، فكان رئيسها الجديد عبدالرحمن كيالي ونائبه خيرالدين الأسدي، صاحب كتاب “موسوعة حلب المقارنة.”
وعن نشاط الجمعية في الجانب الأثري، يقول “قجة”: “نقوم كل أسبوعين بزيارة أثرية لمدينة حلب، كما لدينا رحلات أثرية داخل سوريا، في حوران والسويداء والساحل وأفاميا وأوغاريت وكل المناطق، كذلك نقوم برحلات دولية في السياحة الأثرية، والجمعية معروفة ومحترمة في متاحف العالم، فأعضاؤها يدخلون متاحف العالم دون مقابل، وكنا نزور بعض دول الجوار كما لو أنها رحلات داخلية مثل الأردن وتركيا ومصر وغيرها.. كذلك نهتم بالتراث الحلبي الموسيقي والغنائي، وله عندنا وضع خاص”.

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود

ومن المشاهير المنتسبة للجمعية يذكر “قجة ” كلا من وليد إخلاصي الأديب السوري المعروف، ومحمد أبومعتوق ،كما أن لها فروعا فى مراكز المحافظات والمناطق الثقافية، وتصدر الجمعية مع جامعة حلب كتابا سنويا بعنوان “عاديات حلب” يتضمن نتائج التنقيبات الأثرية التي حدثت في كل سوريا خلال عام وبأكثر من لغة عالمية.
وحول نشاطات الجمعية مثلا جمعية العاديات ومجموعة آثاريو العاديات يطلقان ورشتهما الثانية تحت اسم “مبادئ ترميم الفخار”.
وتسعى الورشة للإجابة على التساؤلات التالية: الترميم متى نشأ هذا المصطلح وكيف تطور وما هي الآليات الحديثة المتبعة في عملية الترميم؟ ما هي تقنية ال3D؟ هل التقنيات الحديثة في الترميم ناجحة؟ ما هي إيجابياتها وسلبياتها؟..

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود
تلك هي التساؤلات التي تفاعل معها المشاركون في ورشة “مبادئ ترميم الفخار2″، وذلك بعد طرحها من قبل الأستاذ محمد نور حباق “رئيس قسم الترميم في متحف حلب”، حيث تضمنت فعاليات الورشة التعريف بجمعية العاديات من قبل الدكتور محمد خواتمي وبمجموعة “آثاريو العاديات” وتفعيل دور الآثاري لخدمة الأوابد الأثرية في سورية، حيث كان هذا المدخل النظري تمهيدًا للقسم العملي من أعمال اليوم الأول والذي تضمن التنظيف والتجميع واللصق.
أيضا نلق الضوء على بعض أنشطة الجمعية في مجالات العمارة مثالا عليها ورشة عمل حول العمارةالكنسية في سورية بفرع العاديات في حمص حيثتتفرد سورية بوجود مجموعة من أقدم الكنائس في العالم وأكثرها روعة في البناء المعماري الفريد لتؤكد أن هذا البلد كان الأرض التي انتشرت منها تعاليم السيد المسيح إلى العالم.

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود
هذه الجزئية وغيرها تطرق لها المهندس نهاد سمعان الباحث التاريخي وعضو لجنة التراث في فرع نقابة المهندسين بحمص في محاضرة لفرع جمعية العاديات بحمص مبيناً أن الأبحاث التاريخية تؤكد أن سورية قلب العالم النابض بالحضارة والتاريخ ولم تكن الطريق أو المعبر كما يحاول البعض تصويرها.
ويوضح سمعان أن ميزة عمارة الكنائس في سورية أنها جزء من النسيج العمراني في هذا البلد فلا فواصل مهمة برأيه بين العمارة الكنسية والجامعية بل هي أبنية تأثر تصميمها ببعضها وبنيت في زمن معين لها نفس الطابع واستخدمت فيها نفس المواد فصار لها طراز خاص شمل كل الكنائس والقصور والمعابد والمسارح والقبور والمباني العامة وقصور العدل وتندرج بالتصنيف المعماري تحت بند فن ما يسمى المباني المؤبدات.
ولفت سمعان إلى أن العمارة فن ووظيفة تعبر عن الروح الجمعية للأمة في زمن محدود وهي ليست ثابتة الشكل بل متطورة كالحياة حيث تطورت العمارة عبر الزمن لتخدم الروح والنفس وتجمل الحياة من الراحة الجسدية والأمن إلى الراحة النفسية ومشاعر الاطمئنان والقوة.
واستعرض الباحث نماذج فريدة من أبنية الكنائس والأديرة في مختلف مناطق سورية منها كنيسة دوراوربوس بدير الزور وتضم أقدم اللوحات الجدارية بالعالم وكنيسة قلب لوزة في إدلب حيث كانت الأساس المعماري لكنائس العالم وغيرها الكثير مما تم نقله لاحقاً إلى الغرب.

جمعية العاديات السورية.. نموذج “العلمانية المؤمنة

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود

فمن المميز أن ادارة الجمعية قد عكست منذ بدايتها التنوع الديني والفكري الذي تميز به المجتمع السوري. فقد كانت حلب مثلا في ذلك الوقت (1924) تتميز بتعايش ديني ومذهبي اسلامي مسيحي يهودي، حيث ان ثلث السكان كانوا من المسيحيين واليهود بجميع طوائفهم. وهكذا يلاحظ أن المؤسسين للجمعية كانوا يجمعون بين رجال الدين المسلمين (كامل الغزي ومحمد راغب الطباع الخ) والمسيحيين (جبرائيل رباط الخ) وبين العلمانيين (خير الدين الأسدي الخ) ولذلك فقد خلف الشيخ كامل الغزي في منصبه كأول رئيس للجمعية (1924-1933) جبرائيل رباط الذي كان ايضاً مديراً للنادي الكاثوليكي في حلب.وقد لفت نظري والحديث للأستاذ ارناؤوط في فلسفة الجمعية وصفها بأنها “أول منظمة تتصف بالعلمانية ليس في حلب وانما في المنطقة” . ولكن المحاضر سرعان ما أضاف أن “علمانية الجمعية لم تكن ضد الدين بل كانت علمانية مؤمنة حيث كان على رأسها شيخ وكاهن” أي الغزي ورباط.وما يهم في هذه الجمعية الآن انها بقيت الوحيدة التي حافظت على وجودها وفلسفتها “العلمانية المؤمنة” وروحها الديموقراطية حيث ان اول رئيس لها (الشيخ كامل الغزي) اصبح رئيساً لها بالانتخاب الحر في 1924، وكذلك الامر مع الرئيس الثاني (جبرائيل رباط) في 1933، وبقي ذلك الانتخاب يميز اختيار رؤسائها الى الرئيس الحالي الأستاذ محمد قجة الذي احتفت به وزارة الثقافة السورية بإقامة ندوة علمية تكريماً له.

وعن الإصدارات الخاصة بالجمعية فهي ثلاثة اصدارات:
 المجلة الفصلية وهي كتاب سنوي يصدر بالاشتراك مع معهد التراث العلمي العربي بحلب وموجه للاختصاصيين في الآثار، حيث كانت البداية مع مجلة العاديات الشهرية، والتي استمرت بين العامين 1931 و1939، حيث توقفت بسبب الحرب العالمية الثانية، ومن ثم عادت لتصدر في العام 2005 بحلة جديدة وبشكل فصلي، وموجهة لكل من الاختصاصيين وغير الاختصاصيين.
 الكتاب السنوي الذي يصدر بشكل سنوي ويحوي نتائج التنقيب والأبحاث الأثرية.
موقع الجمعية الالكتروني “www.aladeyat.org”، والذي طور ليقدم معلومات ثقافية أثرية مع الأنشطة الراهنة، كما يقدم نوعاً من الاتصال والتواصل ما بين الجمعية وأعضاءه.

 

وفي الواقع يمكن القول إن الاستاذ محمد قجة استطاع في عهده من تحويل جمعية العاديات من جمعية حلبية الى جمعية سورية بعد ان افتتحتأكثر من 17 فرعاً لها في كل المدن السورية، ومن جمعية أهلية فقيرة الموارد تعتمد على مساعدة الدولة الى جمعية أهلية تحظى بدعم المجتمع الواسع وتحقق الوفر المادي لأول مرة، وهو ما يساعدها الآن على اقامة المزيد من الأنشطة. فجمعية العاديات تكاد تتحول الى جامعة مصغرة حيث تقيم محاضرة في كل اسبوع وعدة ندوات محلية ودولية في كل سنة، وتستقبل ضيوف حلب كما وتنظم زيارات لأعضائها الى المواقع الأثرية السورية والعربية والعالمية، وتبقى سوريا حكاية التاريخ التي لا تنتهي وارض الحضارات ومهد الأديان السماوية التي نادت بالمحبة والسلام والرحمة.

العاديات السورية.. بصمات حماية التراث الانساني من أيام عاد وثمود

زر الذهاب إلى الأعلى